كبرتُ ولا زلتُ أحزنُ
لأني أفتقدُ حديث الجدّات ، لتلكَ الخرافات و الأساطير التي لم تكن يوماً ، لتلكَ
القصص و الحكايات التي تروى لتنهانا عن شيء ، و حينَ نكبر نكتشف أنها محضُ كذبة
ولكنّ مفعولها قد سرى فينا كالدم .
إنني أحتاجُ لتلكَ
الخرافات الآن لتجعلني أتوقف عن الوأد الذي أمارسه ، لتخيفني و ترعبني لدرجة
التوقف عنه ، لأكتب بكل ما أوتيتُ من قوّة لأحيل دونَ إصابتي بلعنةٍ ما تتبعني
طوالَ حياتي .
أحتاجُ لأحاديث العجائز
تلكَ الغريبة التي ترغمكَ على تصديقها حتى ، كلّ ما أذكره عن جداتي أن إحداهن قضت
الخمسُ سنوات بعد رحيل جدي في التنّقل بينَ منازل أبنائها الثمانية ، و أصبحت
طريحة الفراش لشهرين رُبما حتى صدمنا خبرُ وفاتها حينَ عودتي وابنة عمي من مدرسةِ
حفظ القرآن ، و كم أذكر أنني بكيتُ بكاءً مريراً وأنا لم أشبع من حديثها .
و كلّ ما أذكره عن جدتي
الأخرى هيَ حروبها مع الخبيث و مبيتها طويلاً في منزلِ خالتي لأن لا أحد يقدرُ على
مساعدتها سوى الله ، و لأننا لا نملكُ سوى الدعاء ، لكنِّ أذكر حديثها جيداً حينما
قالت لي : لا تحزني على الأموات ، فقط بللي ذكراهم بالدعاء .
أعتقد أن حديثها الأخير
لي كانَ كافٍ جداً عن كلّ الخرافات و الأساطير ، وعن كلّ أحاديث الجدّات التي
يملّها البعض ، ولا زلتُ أشتهيها ، أعتقد أن لا جدّة ستقولُ لأحفادها كجدتي حينَ
كان ترى أدمعنا حزناً عليها لأننا كنا موقنين أن لحظاتها الأخيرة هيَ تلكَ التي
كانت فيها معنا .
و يكفي أنني أحتاجُ قولها
بعمق ( لا تحزني ) ، و رُبما مشاعر الحزن داخلي هيَ أكثر ما يتم وأدهُ قبلَ أن
يولد خوفاً من حديث جدتي الذي أنبتني به مرة ، أن الذي ينام و الدموعُ في خديهِ
سترافقه لعنة الحزنِ طوال حياته و يصبحُ ملعوناً بها !
و رُبما أن أحاديث جدتي
تلكَ القليلة هي ما جعلتني أبني سعادتي بنفسي دائماً ، لأن نفسي هيَ أكثر ما تستحق
أن أسعدها ، فأنا دائماً أفعلُ ذلك ، لأن جدتي هيَ التي كانت تطلبُ مني أن أكون
عِصاميةً في كلّ شيء ، و ربما تأنيبُ جدتي الطويل كثيراً هوَ ما يجعلني عصامية !
إن جدتي كانت تخشى علينا
من الإفصاحِ عن مشاعرنا ، من أن نبكي بينما نحاولُ النوم ، ومع ذلك كانت تمنحنا
كلّ الحبَ وتفصحُ لنا به ، و الآن شغفي في حديثٍ عنه تقولُ لنا " إن الإفصاح
عن مشاعرنا هوَ ما يجعلها مبتذلة " ، لمَ لا نكونَ جدتي نؤنب أنفسنا قليلاً و
نُخرجُ المشاعر المكتومةُ داخلنا ، نبوح بمشاعر الحبّ تجاه أحدهم ونزرعُ فرحاً فيه
، و نخبر أحدهم كم هوَ ملهم ، أم هوَ شغوف ، أم نكتفي بالقولِ له أحبك ، و بعد
ذلكَ كله نعانقه عناق الدعاء ، بعدَ كلّ صلاة !
إننا معقدينَ جداً
أحياناً حتى أننا نخافُ من بوحِ مشاعرنا ، و أذكرُ أنني قلتُ لإحداهنّ ذاتَ مرة
أحبكِ جداً ، و حينما بدأت تقولُ لي بعدها لا تبوحي بحبكِ لأحدٌ أنا ، و بدأت
بتلكَ الخرافات و الأساطير التي حتى الجدات لن تتفوّه بها !
إن مشاعرنا ما خُلقت
لتخبئ أبداً ، وهيَ كتلكَ الأحرف التي ليسَ علينا أن نجعلها تقتلُ داخلنا أبداً ،
و إننا نكونُ مجرمين حينَ نجعل تلكَ الأحرفُ تقتلُ قبلَ ولادتها من أرحامِ الشّغف
داخلنا ، إن رواء دائماً ما
تعاتبني على وأدِ الأحرف ، أو محاولة قتلها ، أو جعلها تستريحُ داخلي دونَ حتى أن
أبذلَ جهداً في الإفصاحِ عنها !
و حينما كانت تذكرني في
ذاك الحديث ، أن الجزء الذي لا يُروى من أحرفنا هو الذي يمثلنا تماماً ، و هو الجزء
الذي يقولُ من نحن ، و هوَ دائماً محذوفٌ من كلّ نص ، إن رواء هيَ المعنى الحقيقيّ
لذاكَ الإفصاحُ عن المشاعر الذي أبداً لا يجعلنا مبتذلة ، و إن كنتُ أرويها هُنا
كثيراً فإنَ ذلك سيعدُّ بخساً في حقها بما تفعل !
إني موقنةٌ جداً انها ستستشيط
غضباً حينما ترى أي محاولة لوأدِ حرفٍ مهما صغر ، و إننا في الواقع نحنُ لا نقومُ
بوأدها بل إننا نجعلها تكبرُ أكثر حتى تستفيقَ كذو الفجرِ في حلمٍ عظيم !
و حينما كُنتُ اسألُ كيفَ
ابدأ بحرفي حينَ أبوح ، فأنا في الواقع لا أفكرُ ملياً عمّا اكتب ، بل إنني أكتفي
بالإمساكِ بقلمٍ أو لوحة مفاتيح لأهلوسَ دونَ أن أفكرَ مسبقاً عمّا سأكتب ، لأن
التفكيرُ في الأمرِ مُرهق ! وأنا كلّ ما أريدهُ أن أستريح من زحامِ الأحرف تلك و
أبوحُ بها في مدونتي لأستريحَ منها !
لأخبئها هناك و أنساها
ثمّ يأتي أحدٌ ما و يذّكرني بها ، و إنني أستغربُ جداً تلكَ الأرواح التي تجيبُ
عليّ بأحاديث أنا قد كتبتها ، و مندهشة جداً بحفظِ البعض لما أقول و كأنه واجبَ
النحوِ كان عليهم حفظَ قاعدته !
لا أعلمُ لمَ أشعر
أحياناً أن بعضَ احاديثنا مجرّد سراب تسقطُ سهواً ، وأنا أكثر من يوقنُ أنها ليست
كذلك أبداً ، و لكنِّ رغمَ ذلك متمسكةٌ بالحرفِ أكثر من أي شيء ، و كقولي لشغفي
دائماً إن من يكتب مرةً محالٌ أن يتوقف مرةً أخرى ، و من يتوقف فهوَ مجرمٌ ليسَ
إلا ..
و إنني أتمنى أن يُدركُ
كم من حرفٍ قد قتلهُ كانَ رفيقهُ للجنة ، و إن كانَ إفصاحنا عن مشاعرنا لا يحملُ
في قلوبِ الجميع معنى ، فهو في داخلنا ولمن نُفصحُ له ألف معنىً و معنى ..
حديثي لكم هذا اليوم :
كونوا مرهفي الاحساس ، عبّروا عن مشاعركم و اخرجوا كلّ جميلٍ بداخلكم ، وكونوا بخير.
انتهى #
الله...
ردحذفوشعرت ان بعض الاحداث توقفت وعدنا لحديث الحكم والنصح....
اننا نشتاق لشي.....ربما لا نعرفه..
شكراً نُهى على الحروف الماسية
رُبما لا نعرفه حقاً ، هناك دوماً ما يبقى مفقوداً من كلّ شيء !
حذفشكراً لله على كل شيء ..
فتح الله الحرف أبواب لك... وفقك لكل صلاح
ردحذفيا رب ")
حذف