الخميس، 3 يوليو 2014

حديث فجر .. 16




كبرتُ ولا زلتُ أحزنُ لأني أفتقدُ حديث الجدّات ، لتلكَ الخرافات و الأساطير التي لم تكن يوماً ، لتلكَ القصص و الحكايات التي تروى لتنهانا عن شيء ، و حينَ نكبر نكتشف أنها محضُ كذبة ولكنّ مفعولها قد سرى فينا كالدم .

إنني أحتاجُ لتلكَ الخرافات الآن لتجعلني أتوقف عن الوأد الذي أمارسه ، لتخيفني و ترعبني لدرجة التوقف عنه ، لأكتب بكل ما أوتيتُ من قوّة لأحيل دونَ إصابتي بلعنةٍ ما تتبعني طوالَ حياتي .

أحتاجُ لأحاديث العجائز تلكَ الغريبة التي ترغمكَ على تصديقها حتى ، كلّ ما أذكره عن جداتي أن إحداهن قضت الخمسُ سنوات بعد رحيل جدي في التنّقل بينَ منازل أبنائها الثمانية ، و أصبحت طريحة الفراش لشهرين رُبما حتى صدمنا خبرُ وفاتها حينَ عودتي وابنة عمي من مدرسةِ حفظ القرآن ، و كم أذكر أنني بكيتُ بكاءً مريراً وأنا لم أشبع من حديثها .

و كلّ ما أذكره عن جدتي الأخرى هيَ حروبها مع الخبيث و مبيتها طويلاً في منزلِ خالتي لأن لا أحد يقدرُ على مساعدتها سوى الله ، و لأننا لا نملكُ سوى الدعاء ، لكنِّ أذكر حديثها جيداً حينما قالت لي : لا تحزني على الأموات ، فقط بللي ذكراهم بالدعاء .

أعتقد أن حديثها الأخير لي كانَ كافٍ جداً عن كلّ الخرافات و الأساطير ، وعن كلّ أحاديث الجدّات التي يملّها البعض ، ولا زلتُ أشتهيها ، أعتقد أن لا جدّة ستقولُ لأحفادها كجدتي حينَ كان ترى أدمعنا حزناً عليها لأننا كنا موقنين أن لحظاتها الأخيرة هيَ تلكَ التي كانت فيها معنا .

و يكفي أنني أحتاجُ قولها بعمق ( لا تحزني ) ، و رُبما مشاعر الحزن داخلي هيَ أكثر ما يتم وأدهُ قبلَ أن يولد خوفاً من حديث جدتي الذي أنبتني به مرة ، أن الذي ينام و الدموعُ في خديهِ سترافقه لعنة الحزنِ طوال حياته و يصبحُ ملعوناً بها !

و رُبما أن أحاديث جدتي تلكَ القليلة هي ما جعلتني أبني سعادتي بنفسي دائماً ، لأن نفسي هيَ أكثر ما تستحق أن أسعدها ، فأنا دائماً أفعلُ ذلك ، لأن جدتي هيَ التي كانت تطلبُ مني أن أكون عِصاميةً في كلّ شيء ، و ربما تأنيبُ جدتي الطويل كثيراً هوَ ما يجعلني عصامية !

إن جدتي كانت تخشى علينا من الإفصاحِ عن مشاعرنا ، من أن نبكي بينما نحاولُ النوم ، ومع ذلك كانت تمنحنا كلّ الحبَ وتفصحُ لنا به ، و الآن شغفي في حديثٍ عنه تقولُ لنا " إن الإفصاح عن مشاعرنا هوَ ما يجعلها مبتذلة " ، لمَ لا نكونَ جدتي نؤنب أنفسنا قليلاً و نُخرجُ المشاعر المكتومةُ داخلنا ، نبوح بمشاعر الحبّ تجاه أحدهم ونزرعُ فرحاً فيه ، و نخبر أحدهم كم هوَ ملهم ، أم هوَ شغوف ، أم نكتفي بالقولِ له أحبك ، و بعد ذلكَ كله نعانقه عناق الدعاء ، بعدَ كلّ صلاة !

إننا معقدينَ جداً أحياناً حتى أننا نخافُ من بوحِ مشاعرنا ، و أذكرُ أنني قلتُ لإحداهنّ ذاتَ مرة أحبكِ جداً ، و حينما بدأت تقولُ لي بعدها لا تبوحي بحبكِ لأحدٌ أنا ، و بدأت بتلكَ الخرافات و الأساطير التي حتى الجدات لن تتفوّه بها !

إنني وفي كثيرٍ من الأحيانِ أبوحُ لإحداهن كم أحبها ، وكم هيَ شغوفة ، أو كم تعني لي حتى وإن كانت الحروفُ لا تصفُ المشاعرَ أحياناً ، إلا أنني أكتفي أحياناً بقولي أحبكِ بلغةِ الدعاء ، أو ذكرتكِ عندَ الله ، و إن كانَ يُقال لي أحياناً أني أقلبُ المجالس لمجلسِ غزل ، أو يجعلُ أحدهم من مشاعري موضع سخريةً ،  فإن الأمر لا يعنيني ما دمتُ أستمتع بمنظرَ السعادات التي تُزرعُ أمامي !

إن مشاعرنا ما خُلقت لتخبئ أبداً ، وهيَ كتلكَ الأحرف التي ليسَ علينا أن نجعلها تقتلُ داخلنا أبداً ، و إننا نكونُ مجرمين حينَ نجعل تلكَ الأحرفُ تقتلُ قبلَ ولادتها من أرحامِ الشّغف داخلنا ، إن رواء دائماً ما تعاتبني على وأدِ الأحرف ، أو محاولة قتلها ، أو جعلها تستريحُ داخلي دونَ حتى أن أبذلَ جهداً في الإفصاحِ عنها !

و حينما كانت تذكرني في ذاك الحديث ، أن الجزء الذي لا يُروى من أحرفنا هو الذي يمثلنا تماماً ، و هو الجزء الذي يقولُ من نحن ، و هوَ دائماً محذوفٌ من كلّ نص ، إن رواء هيَ المعنى الحقيقيّ لذاكَ الإفصاحُ عن المشاعر الذي أبداً لا يجعلنا مبتذلة ، و إن كنتُ أرويها هُنا كثيراً فإنَ ذلك سيعدُّ بخساً في حقها بما تفعل !

إني موقنةٌ جداً انها ستستشيط غضباً حينما ترى أي محاولة لوأدِ حرفٍ مهما صغر ، و إننا في الواقع نحنُ لا نقومُ بوأدها بل إننا نجعلها تكبرُ أكثر حتى تستفيقَ كذو الفجرِ في حلمٍ عظيم !

و حينما كُنتُ اسألُ كيفَ ابدأ بحرفي حينَ أبوح ، فأنا في الواقع لا أفكرُ ملياً عمّا اكتب ، بل إنني أكتفي بالإمساكِ بقلمٍ أو لوحة مفاتيح لأهلوسَ دونَ أن أفكرَ مسبقاً عمّا سأكتب ، لأن التفكيرُ في الأمرِ مُرهق ! وأنا كلّ ما أريدهُ أن أستريح من زحامِ الأحرف تلك و أبوحُ بها في مدونتي لأستريحَ منها !

لأخبئها هناك و أنساها ثمّ يأتي أحدٌ ما و يذّكرني بها ، و إنني أستغربُ جداً تلكَ الأرواح التي تجيبُ عليّ بأحاديث أنا قد كتبتها ، و مندهشة جداً بحفظِ البعض لما أقول و كأنه واجبَ النحوِ كان عليهم حفظَ قاعدته !

لا أعلمُ لمَ أشعر أحياناً أن بعضَ احاديثنا مجرّد سراب تسقطُ سهواً ، وأنا أكثر من يوقنُ أنها ليست كذلك أبداً ، و لكنِّ رغمَ ذلك متمسكةٌ بالحرفِ أكثر من أي شيء ، و كقولي لشغفي دائماً إن من يكتب مرةً محالٌ أن يتوقف مرةً أخرى ، و من يتوقف فهوَ مجرمٌ ليسَ إلا ..

و إنني أتمنى أن يُدركُ كم من حرفٍ قد قتلهُ كانَ رفيقهُ للجنة ، و إن كانَ إفصاحنا عن مشاعرنا لا يحملُ في قلوبِ الجميع معنى ، فهو في داخلنا ولمن نُفصحُ له ألف معنىً و معنى ..

حديثي لكم هذا اليوم : كونوا مرهفي الاحساس ، عبّروا عن مشاعركم و اخرجوا كلّ جميلٍ بداخلكم ، وكونوا بخير.



انتهى #


هناك 4 تعليقات:

  1. الله...

    وشعرت ان بعض الاحداث توقفت وعدنا لحديث الحكم والنصح....

    اننا نشتاق لشي.....ربما لا نعرفه..

    شكراً نُهى على الحروف الماسية

    ردحذف
    الردود
    1. رُبما لا نعرفه حقاً ، هناك دوماً ما يبقى مفقوداً من كلّ شيء !
      شكراً لله على كل شيء ..

      حذف
  2. فتح الله الحرف أبواب لك... وفقك لكل صلاح

    ردحذف