يا صديقي .. أعلمُ أنكَ كثيراً ما تقرأ ، تُفكر ، ثمّ تصمت ، فيأسركَ الصمت
و يوجعك الحال ، لكنكَ تدركُ انكَ تملكُ حرفاً يلتوي بالفرح فنقرأ منه الوجعَ
فرحاً و نتفاءل به .
أدركُ يقيناً ما بصدرك من حديث ، ما لا تستطيعُ البوحَ به لأنكَ ستُخنقُ به
، لأنه سيسأسركَ ويؤلمكَ كثيراً ، البوحُ بهِ قاسٍ قد يودي بحياتكَ هدراً ، أدركُ
ذاكَ الذي الصوتُ المبحوحُ في صدرك ، التي لن تُسمع صرخاته ، ولن يُستجاب لندائاته
، أعلم ذلكَ ما بقلبكَ من حديث ، وما بفكركَ من حروف ، وما بكَ من صمتٍ يحرقك !
صديقي .. تلكَ الحوارات التي قرأتها وأنتَ مختبئ خوفاً من أن يروكَ
فيجرحوكَ بالحديث ، الأحرف التي خبئتها عن أعين الجميع وحدهُ الله يعلمها ، و
الكبتَ الذي أنتَ فيه وحده الله من سيسمعُ حديثكَ وندائك ، فقط احمِ نفسكَ من
الجراح ، ومن كلّ شيء ، أخلو مع الله ، وهاجر دونهم ، سافر بعيداً في المَدى و
ابتسم .
قلتُ لكَ تلكَ المرة حادثني يا صديقي .. فقلتَ لي تلكَ الحكاية التي أعادها
جدّك لمسامعك في كلّ مرة ، حكيت لي الحكايةُ الأسطورية التي يجهلها عن البعض ، عن المرأة
التي تملك أحدَ عشرةَ اخت ، وفي يومٍ ما حينَ أدخل ابنائها الضيوفَ الغرباء
لمنزلهم ، و أكرموهم طويلاً كانوا يظهرون الكرمَ وما ترّبوا عليه ، حتى اغتُصِبَت
أمهم ، و قتلَ أولُ أبنائها ياسين ، تلكَ المرةُ هُجرت ، وتُركت ، كل أخوتها تخلّوا
عنها ، رأؤوها مخيفةً تشتهي الإنتقام ، أو أنها مكسوةٌ بالعار ، ابتعدوا شيئاً
فشيئاً ومضوا دونها في حيواتهم ، وهي تنكسرُ شيئاً فشيئاً حتى غزاها الشيبُ وهي
تهمسُ انقذوني ..
كَبت الأخوات بعيداً عن اختهم ، وكلٌّ يشتهي أن يكونَ بعدَ والديهم هوَ
المسؤول عن الجميع ، فتقارب الأعمار بينهم لا يعطي أيٌّ منهم الحقَّ في أن يقولَ
أن الأكبر بينكم ، أو أنني المسؤول عنكم ، تزدادُ الصراعات بينهم بهدوءٍ غريب ،
يلحظه البعضُ ويتجاهله ويتحدثُ فيه الآخر حتى ينتقمون منه ويصمت بعدها في قبرهِ إلى
الأبد !
يوماً ما أعلنتَ احد الأخوات أن لها الحقَّ بكلّ شيء ، و أزهرت ، تراقصت
فرحاً بالسيادة ، أشرقت ربيعاً و كانت فجراً منيراً ، حتى أثارت غيرةُ أختيها ،
فتسللا على حينِ غفلةٍ في ليلةٍ ما لمحاولة قتلها ، جرحاها في كبدها بسيفٍ حاد حتى
سقطت مغشياً عليها ، ظنّت الأختين أنها توفت فسارعتا بالهرب ، لكنّها لم تتوفَ
فُجرحت كثيراً وابتعدت محاولةً ان تطوي جراحها من خيانةِ اخواتها !
أخوة يوسف و غدرهم ، يبدو أنهم أقلُ خبثاً من إخوةٍ نسوا دستورَ من سبقهم
من أبائهم و أجدادهم ، نسوا أن السيادةُ التي بينَ يديهم ستبتعدُ عنهم ، وكلٌّ
يحاول صنعَ فخٍ لأخيه !
ثمّ ماذا ؟ أتدري يا صديقي أنتَ تدركُ تماماً ان أولئك الأخوة لن ينعموا
بسلامٍ يوماً ، فدعاءُ اختهم المظلومةً يشتدُّ عليهم كلّ ليلة ، وحديثها مع الله
حتى الفجرِ يبقى موشوماً في صدورهم جراحاً !
أتدري يا صديق .. ذاتُ مرةٍ رأيت أحدُ الأخوة يحاول تبرئة جراحهِ ، يمشي
طويلاً في الطرقات مغنياً ، يرقصُ برايةُ دمائه حتى أصبحَ مهووساً برايته ، إخوةٌ
لم يولدوا في رحمِ الحياةِ لكنّهم خنقوا أنفسهم !
أتدري ماذا بعد .. أنتَ تدركُ ان جدّك حكى لكَ تلكَ القصة حتى تكونَ مع
اخوتكَ كريماً ، حتى تبقى معهم دائماً وتخافُ عليهم من كلّ أذى .. أولئك الإخوةُ
لم يكونوا يوماً إخوة !
إنهُ مجرّدُ وهمٌ انهم إخوة ، يتناقله الأجداد ليحكوها لأحفادهم ، و تقوّي
بها الجدّات علاقتهنّ مع حفيداتهن ، إنها قصةٌ وهميةٌ أسطورية ، تجري كالدمِ فينا
، متمسكينَ بذاك الوهم ، لن نسستيقظَ منه مرةٌ ابداً !
لا بأس ، ادركُ يا صديقي أنكَ في اشتياقٍ لتروي تلكَ القصة لحفيدك ، لكنّ
فكر إن كتبتها قبلَ تلكَ المرة هل سيتركك الإخوة ؟ سيقتلكَ الوهمُ من التفكيرُ بهم
!
يُحكى أنها لعنةٌ تصيبُ راويها في كلّ مرة ، فيهذي بها كثيراً حتى يتبخرُّ
جسدهُ في السماء ويرحل .
ابقي حديثكَ بصدركَ يا صديقي .. فليست كلّ القصصِ تروى ، وللبيوت حُرمات ،
وليسَ كلّ ما في القلبِ يُباح به ، احذر يا صديقي .. بالبوحُ قاتلٌ أحياناً !