الأحد، 18 أكتوبر 2015

معطفٌ أبيض - 2

يقولُ لنا طبيب علم أمراض الدم أنه كان منتدباً في أحد المستشفيات ، وفي أحد أيام العطلةِ الرسميّة كان عدد فنيّ المختبر قليل في قسم أمراض الدم و كان هُناك الكثير من العينات فالمرضُ لا يعرف وقتاً محدداً ليزور الناس ، ما يُهمّ أنه اختار هو العمل على جهاز بسيط يتطلّب امساك عينة اسفلَ قطعةٍ من الجهاز لتسحب شيئاً من العينة ثم ترتفع تلك القطعة و بعد ثلاثون ثانية تظهر أن النتائج قد تمّت وعليهِ طباعتها .

يقول ما إن أمسكتُ العينة الأولى حتى أتت فتاة أميّة لا تجيد القراءة ولا الكتابة ، لا تجيد حتى كتابة اسمها وظيفتها التي تعمل بها من ثلاث سنوات أن تقوم بتنظيف المُختبر ، أتت إليهِ الفتاة وقالت " أنا سأقوم بالمهمة " ، كانت على رأسه علامة تعجبٍ كبيرة كيف تظن أنها تستطيع القيام بذلك ! .

يقول أنه طلبَ منها أن تريه ما ستفعل ، ووقفت بكل ثقة وأمام الجهاز أمسكت العينة و قامت بالضغط على زر حتى ظهر على الشاشة " ادخل العينة " ، أدخلتها ، ثمّ انتظرت حتى ظهر " تم سحب العينة " فقامت بإعادة عبوةُ العينة ، وانتظرت حتى ظهر في الشاشة " قم بطباعة النتائج " ، فضغظت على زر الطباعة و أعطته قالت " خذ النتائج " .

يقولُ كنتُ مصدوماً جداً ، وسألتها كيف قرأتِ ما كُتب ، فأخبرته أنها لا تجيدُ القراءة لكنها باستمرار تشاهد فنيّ المختبر وهو يقومُ بعمله بادخال واخراج العينة وطباعة النتائج فتعلم أن ما يظهر أولاً يخبرها بالأمر الفلانيّ ، وما يظهر ثانياً يخبرها بالأمر الآخر وهكذا .

لا زال مصدوماً وهي مبتسمة سعيدة كطفلةٍ أُعطيت قطعة حلوى ، كان يحكي لنا وهو مبتسماً عينيه بهما بريقٌ عميقٌ جداً وكأنه كان يحاولُ إخبارنا عظم النعمة التي نحنُ فيها ، وبمعنى آخر أصحاب المعاطفِ البيضاء عُظماء .
هم حقاً عظماء حينما يحاولون أن يوصلون لنا تلكَ الرسالة ، وهم يحاولون لنا أن يشرحون لنا الحبّ الذي يكنونه لما يفعلون ، أنهم يرون أن المرضى يستحقون كلّ الجهود ، وهم مجتهدين لذلك .

معلّم مختبر الأحياء الدقيقة كتب في أول صفحةٍ من كتابه " اعتنِ بالمجهر امامك كأنكَ تعتني بطفلكَ الأول ، أو أقلها بأعز أصدقائك " ، يظلّ يخبرنا أن المجهر هو الصاحب وهو كلّ ما يجب أن نكنّ له الحبّ .

معلم مختبر علم أمراض الدم قال لنا في أول محاضرة " تعاملوا مع الشرائح الزجاجية بلُطف فإنها أغلى من الذهبِ بالنسبةِ لي " ، إنه يخافُ علينا أن نكسرها ، أن نوجعهُ بكسرها ، بطريقةٍ أخرى كان يقول لا تؤذوني في شرائحي ، أخبرني مرّة أنه قد يسامح الطالب لو أنه أحرق المختبر فوقَ رؤوسنا بمهما كان فعله ، لكنّه لن يسامحه على شريحةٍ زجاجيةٍ كسرها ، العجيب أن كلّ الشرائح الزجاجيّة موضوعةٍ في مختبره!

معطفي الأبيض دائماً يذكرني بفترة انتدابي للتدريب في الفصل الصيفي ، و أفكر بكمّ العينات التي رُمت بسبب " انكسار الخلايا فيها " والتي درستُ في أحد مقررات هذا الفصل أنه " كان يجب أن تُفحص قبل أن تُرمى " لأنها قد تكون مصابة بحالة مرضية عن  المرضى المتوجعين الذين وبكلّ بساطة كان يُطلب منا رمي العينات دون أن تُفحص ، لكم بعمقِ القلبِ ألفُ دعوة.


عن شعورِ الحيرة ، وعن المسؤولية ، وعن القلقِ الذي ينتاب أثناء تشخيصٍ ما ، كيفَ أنني في مختبر الكيمياء الطبية بسبب فرق بأجزاء من الواحد في النتيجة كان تشخيصي للمريض خاطئاً ، عن محاسبة النفس في دواخلنا أمام معطفنا الأبيض و عن العمق في قول الطبيب " لا تظنون أبداً أن الآلة أكثر دقةٍ منكم " سنكون بحسنِ ظنّك بإذن الله . 

الأحد، 11 أكتوبر 2015

معطفٌ أبيض - 1



كانت نظراتها لا تُغادرني وهي تشعرُ بالخوفِ رُبما أو الحيرة عن سببِ وجودي في مكتب الطبيبةِ آن ذاك ، ظلّت تقّلب ناظريها بيني وبينَ الطبيبة و هي تشكو ما تشعرُ بهِ ابنتها ذات الأربع عشرة ربيعاً التي ظلّت صامتة طوال الحِوار ، الأم و ابنتها المريضة ينظران إليّ طوال الوقت علّي أهمسُ بحرف و أنا أنظرُ إلى المريضة بتفحّص رأفةً بحالها ، حتى أتى نداء الطبيبة " جهزّي أدواتكِ " ، ما إن أخرجتُ الإبرة حتى صرخت الأم " مُستحيل " ، قالت لها الطبيبة بكلّ هدوء "هيَ مُتدربة لدينا وأحد واجباتها أن تقوم بسحبِ الدم من المرضى ، و قد شهدَت مسؤولة القسم و احدى الطبيبات على قدرتها و أنها ليست المرّة الأولى التي تقوم فيها بهذا العمل " ، غضبت الأم غضبت شديداً وبدأت بالصراخِ و اتهام الطبيبة أنهم لا يهتمون بالمرضى و يحاولون قتلهم ورميهم للمدربين حتى يُقتلوا ، أعلنت الطبيبة بكلّ هدوء أنها هيَ من سيقوم بسحب الدم من الإبنة و اعتذرت إلى الأم التي لا زالت تشتم وتلعن المشفى و الأطباء وكلّ من له علاقة بوجودنا كمتدربين لنسحب من أيادي المرضى .

قالت لي الطبيبة بعد خروجهن " لا بأس كلنا مررنا بموقفٍ مماثل انتظري المريضة التالية " ، أتت المريضة التي بعدها التي قضت ما يقارب عشرون دقيقة تشكو طول الإنتظار و أنها انتظرت طويلاً حتى تقابل الطبيبة خديجة لأنها ترى أنها أفضل طبيبة في ذاك المكان ، وبدأت الطبيبة تفحصها و تطرحُ عليها الأسئلة حتى وصل المشهد " سنقوم بسحبِ عيناتُ دمٍ منكِ لإجراءِ بعض الفحوصات ، استعدي " ، كانت جملتها كصاعقةٍ أُنزلت بالمرأة بقت تقولُ لها أنا انتظرتُ طويلاً لأني لا أشعرُ بأيِّ ألمٍ منكِ وترميني لهؤلاء ، حاولت الطبيبة اقناعها ووافقت على مضضٍ وخوف وسلّمتني يداها التي كانت ترتجفُ خوفاً ، سألتني عن اسمي وأعطيتها اسمي الرباعي وقالت " آه ، أنتِ ابنة المهندس فُلان " ، قلتُ لها " نعم أنا بنته " ، فابتسمت وقالت إذاً أنا على ثقةٍ بكِ ، كان الأمرُ مزعجاً كونها تثق بمتدربة كوني ابنة والدي الذي لا علاقةُ له بالطبّ أبداً لكن لا بأس المهم أنها تثقُ بي الآن ولن ترتجف واخطئُ حينها ، أمسكتُ بطرفِ الابرة حتى أُدخلها ، وبدأت تنطقُ الشهادتين وآيات القرآن بسرعةٍ كبيرة حتى أعلنتُ لها أنني انتهيت ، وقالت بفرحٍ " آه أنتِ مثل الطبيبة خديجة لم أشعر بشيء اطلاقاً " ، حييتني وانطلقت .

المريضةُ الثالثة ما إن شاهدت الإبرة حتى بدأت بالصراخ ارجوكِ لا تفعلي ، اتركي دمي ، وبدأت تبكي و تولول ، الغريب أنها في العشرين من عمرها ، أمسكت يدي وبدأت تقولُ لي ارجوكِ لا تفعلي ارجوكِ حتى تركتُ الابرة من مشهدها المؤلم وتركتُ كل شيء خلفي وانسحبت ، عدتُ لاحقاً لتخبرني الطبيبة أنها لم تستطع سحب الدم منها وأرسلها لأقرب مشفى حتى يشخصّون حالتها .

عن تلكَ المراة الكبيرةُ في السنّ التي خفتُ من دمائها التي سالت فورَ إدخالي للابرة و سحبتُها سريعاً من وريدها ، لم أكن أعلم أن هذهِ الحالات قد تحدُث حتى أخبرني الطبيب بعد هذا المشهد وكلّ ما فعلته المرأة أن ابتسمت لي وقالت لا بأس حاولي في يدي الأخرى ، لكنِّ انسحبت و اعطاني الطبيبة الأبرة التي تسحب الدم لا التي تُدخل في يد المريضة وقال لي أنا أدخلها واسحبي ، وما إن امتلت لنهايتها حتى فُكّت اجزائها بغيرِ قصد و سُكبت دمائها فيها و فيّ وملء ملابسِ الطبيب ، ارتجفتُ حينها وخفت لكنها كانت تكرر " لا بأس ، إن لم تتعلموا فينا في من ستتعلموا ، لا بأس ابنتي " ، ظلّت الابتسامة لا تُفارقها وهي تهدئ من خوفي وقلقي عليها وهي تردد لا بأس تعلموا ، لتكونوا كباراً !

هربتُ حينها إلى حيثُ ننتمي و نحنُ نحكي للمسؤولة عمّا حدث و كلّي قلقٌ عليها و أخبرتني أنّ الخطأ في المصنع وأنهم واجهوا نفس المشهد بسببِ رداءة صنع بعض الإبر ، أتت في نهاية اليوم لتسلم علينا العجوزُ الباسمة التي لا أعلم من قام بسحب الدم منها بعدها ، راودني طيفها طوال اليوم و لم أنم ليلتها ضميرٌ قاتلٌ كان يحاربني أنني أوجعتها فيما كانت تهدئ من روعي وتقولُ لي لا شيء موجع .

عن ذاك الطفل الذي كان يصرخُ ويبكي و فيما كنا ثلاثة مع والده نحاولُ الامساك بيده ، وكنت ارتجف ، كانا اللذان معي ينظران إليّ وأنا أكادُ ارتجفُ معه و عيناي اغرورقت بالدمع من صراخه و خوف أمه التي كانت 
تبتعد من كلّ صرخة ، كنتُ انظرُ للطبيبة بعدها و اقولُ كيف قاومت الكثير من البكاء و الكثير من الوجع .

إلى كلّ مريض خائفٌ من غلطةِ متدربٍ على يده ، ذاك المتدرب رُبما قضى ليلة أمس في محاولة الإدراك يقيناً ما سيقوم بهِ على يديك ، ذاك المتدرب غاص في المكتبات بحثاً عن معلومةٍ سيعملُ بها لصحتك ، ذاك المتدرب قضى أياماً متنقلاً بين مكتب طبيبٍ لآخر لأجل ألا يخطئ فيك ، ذاك المتدرب لا ينام الليل فيما تغلقُ كلّ أضواء المنزل وهو يقرأ ويذاكر ، ذاك المتدرب يرمي ورقة اسئلة الامتحان تعطى إليه قبل الامتحان حتى يكتب الذي يعرف كي لا يظلمك لأجلِ درجةٍ أو غيرها ، ذاك المتدرب لم يحضر جمعات العائلة طويلاً ، لم يرافقهم في الرحلات ، و فوّت الكثير من المناسبات ، ليكون بالصورة التي ترضيك ، ولينام مرتاح البال حينما لا يخطئ فيك .

فيما يعتقدُ الكثير أننا فاشلين كحال الطبّ لدينا ، هم في الواقع لا ينظرون لعمقِ الأمور ، ولا يعلمون ما يحدثُ في الخفاء ، لا أنكرُ وجود الأخطاء الطبيّة ولكن تبقى بعض القلوب التي يزاحمها الضميرُ في عملها فتجتهد فيهِ بحبّ ، و فيما يبقون يكررون على مسامع أذني كيف تنجحين وأنتِ غبية ، أو يقولون أني فاشلة هم لا يدركون حقاً ما الجهدُ العظيم الذي نمارسه !

العقولُ العقيمة التي تظنّ أن وجودنا وعدمنا سواء فلتحاولُ فقط أن تحدد مكان إدخال الإبرة و عمقها في يديّ مريض ، وفيما يبقى الكثيرين يقولونَ لي أنني " دفشة " و أن المرضى سيموتون على يدي أنتم حقاً حمقى ، طال الزمان و إن قصر سأثبت لكم ذلك .

حينما يأتي ذاك اليوم الذي أصحو فيهِ فجراً لأذهب فيه للمشفى مرتديةً معطفي الأبيض ، أو في منواباتي الليلية أمضي تاركةً النوم خلفي ، لن تستطيع وقتها أن تشتمني لأنك ببساطة ستحتاجُ إليّ يوماً ما ، وبتفصيلٍ أكبر ستدرك الحمق الذي أنت عليه .

ذاتَ يوم ستصحو – أبعد الله عنك السوء و البلاء – في حاجةٍ لطبيب وممرض و مخبتراتيّ وصيدلاني و أيٍّ كان يعملُ في المشفى ، فادعو لهم أن يُباركَ في جهودهم .



الأحد، 30 أغسطس 2015

في الجنّة تُثمر

على حافةِ الحلمِ كلما نمنا استيقظنا نشهقُ بسرعةٍ وكأننا نسقطُ من طابقٍ مرتفعٍ جداً إلى ظلمةِ لا ندركها ، ثمّ نستيقظُ فزعين نرددُ " بسم الله الرحمن الرحيم " بحرفٍ يكادُ يأكل الذي بعده من الخوفِ الذي يلتبسنا ، وكلما حاولنا أن نعاود النوم يلمسُ هواء المكيفِ ورقةٍ من على الأرفف فتتحرك فنرتجفُ في مكاننا خوفاً محركين أعيننا يمنةً ويسرة في تلكَ الظلمةِ الدامسة ليلاً .

الأمرُ أشبهُ بفقدِ عزيزٍ كلما أتى الليلِ بكينا للهِ ألفاً دونه نرجو لقائه ، أشبهُ بأمنيةٍ كلما اقتربنا منها نمدُّ أيدينا لنمسكها تطيرُ كالفراشِ المبثوث عنّا مبتعدة ، أشبهُ بأرضٍ خاويةٍ على عروشها إن نبستَ ببنتٍ شفةٍ يترددُ صداه همسكَ كأن جبلاً انهارعلى تلكِ الأرض .

كطفلٍ عاد للحديقةِ ذات يوم ولم يجد أرجوحته المفضلة في مكانها ، فاشتدّ بكائه رغبةً بها ، وهو مجبرٌ على الإعتيادِ في كلّ مرةٍ بالعودةِ دون أن يجدها يمارسُ الفرحَ فيها كما كان يفعل منذ أن تعرّف عليها .

الأمر حينما لا نكتب أشبهُ بالهبوط لعمقِ الحياة بحثاً عن لؤلؤٍ يجعلنا سعداء دونَ أن نحمل اسطوانة اكسجين ، فتقطعُ أنفاسنا شيئاً فشيئاً غرقى في هذه الحياة بعيدين عن درةٍ تجعلنا سعداء لا يشوبنا شيء ، لكننا ببساطة غرقنا في الحياة !

العودةُ للكتابةِ أشبهُ بشهقةٍ نأخذ منها قدر ما نستطيع من الفرحِ و الحياة ، وحلم طالما راودنا أن نكتب للأبد ، الأمر أشبه بزهرةِ توليب في صحراء قاحلة لم تعرف المُزنَ يومأً ولم يمرّ عليها ، أشبهُ بشهةِ الحياةِ الأولى لجنينٍ رأى مشهد الحياة للمرة الأولى .

أشبهُ بفرحةِ طفلٍ لمشهدَ والداه يصفقان له على خطواتهِ الأولى دون سقطةٍ مؤذيةٍ تبكيه خلالَ فرحته ، الأمر أشبه بشعورٍ أعظمُ من أن يوصف ، لكنه جداً جميل .

على نورِ القمر كانت تتكئ على أرجوحةٍ تطيلُ الحديثَ معي فيها بحمى تُسكرها كلّ مرة لكنّها تحبها جداً وتراها حنونة ، كانت تقولُ لي أن هلاميّة الحياة مزعجةً لها ، و تحكي لي عن تلك الحمى التي ترهقها ، وتحكي عن خوفِ والديها الذين مهما حاولت أن تقنعهما أنها بخير ، يبقان قلقان رُبما من هذيانها .

على نورِ القمر حديثٌ ليليٍ من أمام النافذة بحلمٍ يكبرُ كلّ ليلةٍ ، وكلّ ذكرى تنسجُ خيطاً يكملُ الذكرى التي تسبقه ، على عتباتِ الليل حينما ينتهي يكتبُ القلمُ حلماً يكبرُ في صدري ، حلما أمضي فيه ، وحلمٌ يسردُ على ضوءِ القمرِ كلّ مرة ، حلمٌ لو نهشني نهشاً لسعيتُ إليه أمضي بفرحٍ ، بشوقٍ كاد يقتلني ، إلى الجنّة .

مرّ شهر كدتُ انسى فيه مدونتي ، التي بقت على سطحِ الهاتف ترجو نقرةِ اصبع لكنِّ اتجاهلها في كلِّ مرةٍ فتحتُ هاتفي ، لم أكن منشغلةً بشيء ، ولم أكن أتجاهلها ، ولم أكن لا أستطيع الكتابة ، لكنِّ لا أريدُ الكتابة ، ولا أعلم الأسباب .

مرّ شهرٌ زارني الفرحُ فيهِ مراتٍ ومرات بحمدٍ من الله ، مرّ عليّ مرةً كنتُ فيها معلقةٌ بينَ السماءِ و الأرض ، بجوارِ أبي ، ومرةً كنتُ على مكتبي أنتظرُ الفرحة تلك ، مرّ شهرٌ لم يترك الله فيها رجاء عبده ، مرّ بكلِّ أشيائه أمسكُ القلمَ مرةً أخرى لاكتب .

أظنني قلتُ مئات المرات " من يكتب مرّة لا يستطيع عدم الكتابة بعد ذلك ، الأمر أشبه بموتهِ تدريجياً ، الأمرُ في دمهِ كمسٍ لا شيخَ يقرأ عليهِ و يرقيه و يشفى منها ، الأمرُ يكادُ يكون ضمن كروموسومات الخلايا الأم التي مهما حاولنا أن نتخلّص منها فهيَ منا وفينا " .

   " إن ما نسعى إليه .. يسعى إلينا " ، إن حُلمي حينَ يكبر داخلي ، يُزهرُ بالحبِّ أكثر ، إنني في يومِ مطرٍ أزهرت روحي حروفا ، ها هيَ الآن ربيعاً ، وغداً في الجنةِ تَثمر .


الخميس، 23 يوليو 2015

فردوسُ العُمر


" كيفَ يعوّض باب من أبوابِ الجنّة ينغلقُ على وجوهنا ؟ "

سؤالها لي كانَ صفعةً على وجهي في محاولةِ بائسةِ للمواساة ، و لأني أدركُ يقيناً معنى فقدِ الجدّات ، معنىً شعوريٍّ عميق مضى على الإحساسِ به أعواماً و أعوام .

حينَ فقدتُ جدّتي أدركتُ أنني فقدتُ شيئاً عظيماً في هذا العالم ، أدركتُ حقاً أنني في تلك اللحظةُ بلا جدّة ، فثارَ من جوفي ألفَ دمعةٍ و دمعة .

كنتُ أدركُ يقيناً وأنا لم أتجاوز الحادي عشرة من عمري أن ذاك الكفن الأبيض الموضوع في وسطِ صالةَ منزلِ عمي ينتمي لجدّتي ، كنتُ أتأمل بكاءُ عماتي حولَ ذاك الجسدِ الطاهرِ النائم ، نائمٌ بسلامٍ نومٍ أبديّ ، و كنتُ أبكي حينها حينما طُلبَ مني الصّعود إلى الطابقِ العلوي ، رُبما لإدراكهم أن ذاك المَشهدُ سينطبع في ذاكرتي إنطباعاً أبديّ .

أتذكرُ حينما كنا نحاولُ مشاهدة ذاك الجثمان خلسة وهو ياخذ ، وكان ذاك الوَداعُ الأبديّ لجدتي التي رَحلت ، وعلى روحها ألفَ غصنٍ من سلام ، وطهرُ الياسمين وكلّ الحبّ و الرحماتِ من فيضِ دعواتٍ لا تفارقها أبداً .

جدّتي تلكَ التي رحلت مُبكراً لا أتذكرُ من تفاصيلها الكثير ، في الواقع أنني لا أذكرُ سوى جثمانها المغُطى بالأبيض ، لا أذكرُ تماماً كلّ ما يذكروه من مواقف ، أو أن بعض المشاهدِ مشوشّة حين تطرأ على خاطري .

جدّتي رَحلت وذهبت معها الحكايا والخرافات ، ومزاح الجدّات ، وهدايا الجدّات ودلالهن ، ذهبت معها القصص و النصائح وكلّ التوبيخات و العقوبات ، رحلَ معها كلّ ما هو متعلقٌ بالجدّات لا غيرهن ، حزنٌ جميلٌ على ذاك الفقدِ وصبرٌ جميل .

جدّتي الأخرى التي كانت على فراشِ المرض تشكو وجعاً أصابها كنتُ أذكرها ، و أذكرها حينما قالت لي " لا تنامي وأنتِ تبكين ، سترافقكِ لعنةُ الحزنِ طوال حياتكِ " ، جدّتي تلكَ اللعنةُ بفقدكِ أظنها أصبحت جزءاً مني .

رحيلها لم يَكن مفاجئاً الأمر كان متوقعاً لكنّ رنين الهاتفِ في منتصفِ الليل وأبي نائم ، أدركنا يقيناً أن ذاك الخبرَ يصلنا بطريقةٍ أو بأخرى و إنه لجارح ، اختي تجيب على الهاتف " ماتت! " ومات كلّ الشعور والإحساس ، رَحلت جدتي الأخرى .

حاولتُ تلكَ الليلة أن أمثّل البكاء أو أحاولُ أن تغرورقُ عيني بالدمعِ لكنِّ لاحقاً أدركتُ أني ملجمة ! وأن جدتي الأخرى رحلت دون عودة ، و أن جثمانها سيوارى دونَ أن أراهُ مكفناً بالأبيض ، أو أني أرى ذبولُ وجهها الطاهرِ قبل رحيلها ، أدركتُ حقاً أنها رحلت ، وأني تلكَ الليلة نمتُ بحزنٍ عميق .

مرّت أيامُ العزاءِ بحزنٍ شديد جافّ الشّعور حتى احتضنتني خالتي وهي تردد " لم يبقَ لنا شيئ " أظن أن خالتي أدركت يقيناً أن لي ولها لم يبقَ شيئاً من رائحةِ جدّتي ، و أن تحاولُ أن تخفف من ذاك الحزن المتجمد فينا حتى اجهشتُ بالبكاء " عمتي لقد رحلت جدتي " كنتُ اهذي لها بصوتِ طفلةٍ أدركت الموتَ ثلاثاً حتى تلكَ اللحظة وهي تقولُ لي " سأكون لكِ جدّة " .

عمتي الآن هيَ جدّة الجميع لكنّ الأمر ليسَ بتلكَ السّهولة هو لا يبرئ الجرحَ ولا يخفي الوجع ، الأمرَ خانقٌ في كلّ مرةٍ تذكرُ فيهِ جدّة .

رحلَ لفظُ جدّتي منذ أعوام و رحلَ معها كلّ الحكايا وكلّ شيء ، لم يبقَ من روائح جداتي سوى أبنائهن ، وفي كلّ احتياجٍ يصبحُ الأمرُ أقسى و الصبرُ على الفراقِ أمر ، الإحتياجُ لجدّة أشبهُ باحتياجنا للماءِ دونَ إرادة ، أكادُ أشعرُ اننا أشجارُ تسقى بحضنِ جدةٍ إن رحلت تذبلُ وريقةً وريقة ، ما إن أثمرتَ حتى ذبلت إحتياجاً حتى تموت .

الأمر يكادُ يفتكَ بي مع رحيلِ أيّ جدة و إن كنتُ لا أعرفها فالأمرُ موجعٌ كما هو قاتلٌ لأحفادها ، فعلاُ كانَ سؤالها " كيفَ تعوّض أبواب الجنّة " ، وأعلمُ أنني لا أملكُ أية إجابةٍ سوى الدعاء لكنّها تفتح باباً للصبر سيوصلنا بإذنه للجنّة حتى نجتمع بها .

صحوتُ هذا اليوم على حلمٍ فيه جدّتي التي لم أرها منذ رحيلها سوى في صورٍ مبعثرة ، صحوتُ لأجدَ اختي تكتب في تلك المجموعة " لا زال صوت جدتي يترددُ في أذني وهي تردد هذه الكلمات " ، ما أعجبَ اليوم !

اليوم شعرتُ أن أمي تشابهُ إلى حدٍ ما في ملامحها لجدّتي ، الأمر الذي لم ألحظه من قبل ولا أظن أن أحداً سيلاحق ذاك الشبه الذي ما إن تحدّثتُ فيه حتى ظنّ الجميع أنني حمقاء ، و اليوم وصلَ لي خبرَ تلكَ التي تعيشُ حياتي قبل عامين برحيلِ جدّتها !

آه .. أهوَ مقدرٌ أن نعيش ذاكَ الوجعَ كلانا ، أن نفقدَ الجدّات كلانا ، رُحماكَ خالقي اجعل حزنها برداً وسلاماً لقلبها ، اجعلهُ صبرٌ جميل يأخذها إلى جنّةِ المأوى .


إن القلبَ ليحزن و إن العين لتدمع وإنا على فراقكِ يا جدّتي لمحزنون ، روحٌ وريحانٌ وجنّة نعيم لجدّاتي وجدّات المسلمين يا الله . 

السبت، 11 يوليو 2015

طُهر أُمنية


كانَ لديّ حُلماً ذاتَ يوم أن أكون طبيبة ، وكان والدي لا يُناديني إلا بالطبيبة ، حتى قررتُ فجأة أن أدرس العلوم السياسيّة ، تعلّقتُ بها وتمنيتُ دراستها حتى أخبروني أنه من المُحال أن أدرس تخصص متعلق بالسِياسة .

حاولَ والدي إقناعي بالدراسة في كلية التربية ، كان قرار اختياري للتخصص الذي أدرسه تخبطاً كبيراً بالنسبةِ لي ، في سنتي الأخيرة في المدرسة كلّ يوم أجولُ في تخصصٍ أقولُ أنني سأدرسه رغمَ أني طوال حياتي أردد أني سأدرس الطبّ او متعلقاته ومع ذلك كنتُ في حيرة ، وكل طالبٍ في الثانوية يدركُ يقيناً معنى التخبّط في ألفَ تخصصٍ وتخصص وفي حيرةٍ من أمره .

حينَ حزمتُ قراري بدراسةِ تخصصٍ متعلقٍ بالطبّ لكنَ ليسَ الطبّ نفسه اتخذتُ من المُختبراتِ الطبيّة حلماً لكنِّي لم أُقبل فيه ، ولم يؤكد لي أحد أني قادرة على تغيير تخصصي إلى المُختبرات الطبيّة ، فكما يقولُ الجميع أنه من بين ما يقارب المئة طلب قد يُقبل واحد أو اثنين أو لا أحد .

بعد عامٍ من الجهادِ لأجل ذاك الحُلم كنتُ و بكلّ فخر الوحيدة التي قُبلت في التخصصِ الذي حلمتُ به ، والذي كان يكبرُ داخلي كلّ يوم مجداً أستفيق به ، كنت قد رفضتُ فكرة دراسة أي تخصص آخر وكان الحلمُ يكبر داخلي وبتوفيقٍ من اللهِ أنهيتُ عاميَ الأول في دراسة المُختبرات الطبيّة .

عموماً هذا ليسَ ما كنتُ أنوي التحدّثُ عنه فلم أأسف يوماً على حزم قراري بتخصصٍ متعلّق من الطبِّ ولم أندم حتى اللحظةُ التي أدركتُ فيها أنني من القلةِ التي يدركونُ تماماً بوجعِ حبيبِ القلبِ وهو موضوعٌ بينَ الأجهزة والوجع في غرفةِ العناية المركزة .

ذاكَ الشّعور والوجع والقلق ، لم أفكرُ يوماً أن هذا الثمن لإدراكي يقيناً بالألم حوله ، بوصفِ الأطباءِ للوجع الذي أدركُ يقيناً ما يعني ، أو عن مشاكلهُ الصحيّة التي ترهقه ، إني آسفة جداً لأني أفهمُ كلّ تلكَ التفاصيل وليسَ بمقدوري شيء !

إني أعلمُ معنى مستوى نبضاته العالية في الجهاز الذي لمحته عند زيارته ، وضغطه المرتفع و الإجهاد الذي يصاب به ، أدرك أن قلبه يوجعه ، آه يا حبيب القلب .

حينَ تضيقُ بي الممرات في المشفى حينَ أعبرهُ بمعطفٍ أبيض كما تمنيتُ طويلاً ، و أن تسكن كلّ الأصوات حولي و أن يهمس جواري : إنه مُرهق .

ليتَ شغفي بالتخصص يحتويني ، ليتني هذهِ المرّة أيضاً أقعُ في غرامهِ مرةً أخرى ، ليتَ المعطفَ الأبيض دفءٌ من المشاعرِ الجامدة التي احتوتني تلكَ اللحظة ، يضيقُ العالم حينها في منظرِ الفراشِ الأبيض وهو نائمٌ فيه وبجسده الطاهر أجهزةٍ مُزعجة .

في المقابل يبقى دراسةِ الطبّ ومتعلقاتهِ مواساة من منظرِ الوجعِ ، و الإدراك يقيناً بالتفاصيل التي تبدو بخير ، و التحسّن البطئ الذي قد لا يلاحظه و يفهمه أيّ أحد ، وأن قول الأطباء : هوَ في تحسّن ، يعني أنكَ تدرك مدى ذاك التحسّن أكثر من أيّ شخص .

أنتَ و ذاكَ المعطفُ دفء حينَ يشعرُ أنك تفهمُ وجعهُ تماماً ، ويشكو لكَ كالطبيب وتطمئن أكثر ، أنتَ وهو يحكي لكَ كلّ التفاصيل التي يروي فيها كلّ ما قاله الطبيب باحثاً عن من يطمئن الجميع عنه .


عموماً عاطفةٌ مُرهقة .. و قلبٌ ممزقٌ بالوجعِ ، و حبيبُ القلبِ هناك .. ربي اشفهِ شفاءً لا يغادرُ سقماً ومرضى المسلمين . 

الجمعة، 3 يوليو 2015

يُزهر بحبّ


خرجَ مُسرعاً مرتدياً أحدَ أكمام معطفه ، وهو يمرّ في الشارع يرتبّ معطفه و يرتدي قفازه في تلكِ الليلةِ الباردة ، يمشي في الطريقِ شاتماً نفسه ألفُ شَتيمة على تأخرّه في النوم .

سيفوتني المَوعد ، ما أحمقني!" ، يحاولُ البحث عن سيارة أجرة في ذاكَ الفجر المُظلم الذي لم تُشرق شمسه بعد لكنّ لا أحد في هذا الشّارع سوى السّكارى المُترنحين ، و العُشّاق المُغرمين ، ولا يمرّ بذاكَ الشّارع سوى السّاهرين .

أمستردام السّاحرة مخيفةٌ ليلاً ليست مثلَ ضيائها صباحاً كما تحملُ الأحلام ، أخيراً سيارة أجرة تمرّ في الجوار رفع يُسراهُ ليوقفها لكنّها مرّت خلالهُ لم تَقف ، حسناً ! سيكونُ عليّ المضيّ مشياً .
" تباً لي لمَ عليّ مجاراتها إلى أبعد نقطةٍ في المدينةِ كلها " مخاطباً نفسه . 

يمشي ذارفاً البخارُ من فمهِ كلما تنفس ، مخبئاً يديه في جيبه من برودةِ الجَوْ ، بدأ المطر بالهطول رفعَ معطفه قليلاً ليحمي رأسهُ من المطر ، خارت قواهُ بدأت خطواته تضعف ، ستون دقيقة من المشي على قدميه وسطَ المطر في ليلةٍ بردها قارس كادت أن تفتكَ به ، أُرهقَ كلياً جلسَ على مقعد أحد محطات انتظار الحافلات محاولاً مقاومة الدمع لأنه لم يبلغ مقصده .

تكادُ الشمسُ تشرق ، تمرّ بخاطرهِ ألفُ ذكرى ليتني لم أنم ، يرددُ اللعنات و الشتائم كلها لنفسه لم أنا بذاك الحمق ، كان أحدَ أحلامها أن يصل في الوقتِ المحدد لكنّه لم يُكمل ، واضعاً كفيّه على وجههِ يفكرُ فيما سيحدث حينما تعلم أنه لم يحقق لها مُناها .

يقاوم الألم و يقف يمشي خطوات وتمرّ سيارة أجرة ، يوقفها  ، أخيراً علّه يحصل ، يخرجُ ورقةٍ مبللةٍ من جيبه بها عنوانٍ ما يقولُ له أرجوكَ أسرع  ، أرجعُ رأسهُ و أغمض عينيه وغطّ في سباتٍ من خيالاتٍ بلقائها .

" سيدي! استيقظ لقد وصلنا " فتح عينيه ينظرُ للسائق باستغراب متسائلاً أين أنا لكنّه سرعان ما تذّكر و نزلَ مهرولاً مستعيداً كلّ قواه .

أخيراً في المكان المحدد

يكاد الفجرُ يُشرق ، متقدماً بخطواتهِ المتوازنة ينظرُ في المدى أمامه ، سارحاً في المدى يسمعُ خطواتها خلفه ، مُدّت يدٍ أمسكت بيديه ، يتحسسها ويضمها ليديه دونَ أن يحرّك شفتيه .

 " إنه نيسان ، شهر التوليب ، إنه يُزهر بحبّ " تهمسُ له  فيبتسم ، ينظرانِ معاً لزهرِ التوليبِ يُزهر في المَدى .
تلتقي أعينهما فَرحين ، لا يمسّ سعادتهما شيء ، يمدُّ يديه يقطفَ زهرةً يضعها على شعرها المُنسدل .

يقول لها " جَنّتي تحققَ حلمك "

تبتسم حتى يتورّد خدها .. يمضيان بفرح .


تمت .

الأحد، 14 يونيو 2015

مُداهمة مَشاعر


خارت قِواها تباعاً ، لم تتمالك شيئاً فشيئاً يُرهقها التعب !
سَقطت ذراعها اليُمنى من على فراشِها ، شعرها يغطي نصفَ وجهها ، كأنّ حرباً أقيمت على عينيها من بقايا الكحلِ المخضّبِ بالدّمع!
أحمرُ شفاهٍ مُظلم يغطي شفتيها التي تكادُ تتمزّق إثرَ عضّها لشفتيها .
تقلّبت في الفراشِ مراراً وتكراراً .

تنظرُ لشاشةِ الهاتف تنتظرُ رسالةٍ ما بشغف ، أو حرفَ اطمئنان ، أو حتى إجابةٍ على إتصالها بمشغول قد تريحها من هوسِ القلق الذي يعتيرها .

وقفت أمام المرآة تلفُّ شعرها البنيّ المنسدل بربطةِ شعرٍ بيضاء ، تمحو الحربّ على ملامحِها بمحاولةِ البقاء مُتماسِكة تبتسم ، تنظرُ لنفسها بسكينةٍ تقتل الصخبَ داخلها .

تعودُ لفراشها في محاولةِ العودةِ للنومِ وقتل ذاكَ الشّعور ، تتقلب مراراً حتى يسكن جسدها وتنم بهدوء ، لم تُكمل الدقائق حتى تصحو فَزِعة تُمسكُ هاتفها ولا حتى ربع إشعار .
تتركه وتصمت ، تفكرْ بعمق ودمعها يجري كشلالِ طهرٍ ينسكب على وجنيتها ، و تضلّ متماسكة .

ترتفع حرارتها شيئاً فشيئاً حتى يُخنقُ قلبها ، تشعرُ بالألمِ مع كلّ شهيقٍ و زفير .
الضعفُ ينهشها نهشاً ، تُداهمها كلّ المشاعرِ دفعة واحدة!
محاولة ترتيبها في طابورٍ واحد علّها تستفيق لكنّها لا تَرحم .

يستمرّ السيناريو و يُعادُ تكراراً حتى يصدحُ في أذنها نداء الفجرِ حيّ على الفلاحِ كهمسٍ ينتشلها من إغتيالِ المشاعر!
تُصلي للهِ ركعتيّ الفجر و ترفعُ أكفها بالدعاءِ المعتقّ بالحبّ " ربي اجمعني به في جنانكَ الخالِدة " .

تلتفت ترى صورتهُ على جدارِ غرفتها مدوّنٌ أسفها .
رحل .. في السابعِ عشر من أيلول .
تمسحُ دمعها وتبتسم ، تعودُ للحياةِ مرّةً أخرى حتى يحين الليل .


- هكذا الفقدُ يقتل .
تمت .
9.23 مَ 


نُهى .

الأحد، 31 مايو 2015

فضفضة طَبيب


كنتُ أستفردُ بنفسي في دورةِ المياه كلّما يُعلنُ نبضَ أحد مرضايَ توّقفه و أبكي بكاءً مريراً ، كنتُ في كلّ مرةٍ أصرخُ معلناً ساعة وفاة أحدهم أشعرُ أن جزءاً بداخلي يموت ، كأني فقدتُ زوجتي ، أو أقربُ أبنائي إليّ ، كنتُ أبكي حتى أشعرُ أنّ كلّ دمعةٍ مني قد جفّت ، و أقتربُ من المغسلة لأتوضأ ، و أصلي للهِ ركعتين و أدعو للفقيدِ و أهله .

أشعرُ أنني أحتاجُ للمواساةِ مع كلّ مريضٍ تسوءُ حالته ، وكلّ محتضرٍ بموت ، و أحتاجُ للتهاني مع كلّ شخصٍ ينجو من موتٍ وشيك ، أو يتعافى من أناتِ الوجع ، كنتُ ولا زلتُ أشعرُ أن المرضى أجزاءً مني ، يعودونَ إليّ ، ويؤلمني كلّ ما يحلّ بهم ، لم أجد أبداً المواساة بفقدِ مريض ، لم أتلقَ من أهل الفقيدِ إلا الصبرِ على مصيبِتهم ، أو كمّاً من الشتائم أنني السببُ في ذلك ولو أنهم موقنين أن الأمر ليسَ بيدي .

لم تعلمني كليّة الطبِّ أبداً أنني سأموتُ مع كلّ مريض ، لم تعلمني أن جزءاً بداخلي سينكسر ، لكنّها علمتني أن أكون أقوى كلّ مرة ، و أبذل من الجهدِ ما قد يرسم الفرحةِ في وجهِ أحبةِ طريحِ الفراش ذاك .

عملي في قسمِ الطوارئ لم يمنحني ذاك الوقتُ للبكاء ، لكنِّ ما إن أنهي كلّ عملي حتى أبقى لوحدي أجهشُ بالبكاء ، لا أنسى أبداً زملائي حينَ يأخذون قسطاً من الراحةِ في استراحةِ الأطباء ، لا أنسى الإنهيارات و البكاء ، وتبادلُ المواساة .

مُشبعينَ بالشّعور جميعهم تجاهِ الفقد ، تقشّعر أجسادنا لساعةِ الرحيل مهما حاولنا التماسك ، يضعفُ نبضنا ، و يسكنُ همسنا ، ومهما كانَ الصراخُ عالياً و الحديثُ واضحاً يكونُ مبحوحاً أبداً امام ذكرِ ساعة الرحيل ، في حضرةِ الموتِ كلنا موتى ، لن يؤذي الموتَ ذاكَ الراحل ، لكنّه يؤذينا جميعاً ، يوجعنا و يكسرنا ، لكنّه أبداً لا يضعفنا ، يجعلنا مستيقظين طوالَ الليل في انتظارِ حياةٍ أخرى بحاجةِ إلينا .

تأوهُ المرضى لم يكن يوماً ليسعدنا ، حتى وإن قلنا إن حالته تُثيرُ الاهتمامِ لا يعني ذلك أننا سعداء بالأمر ، تدافعنا لرؤيةِ حالةٍ نادرة ، ليسَ كما يفهمها البعض أننا نرى ذاك التوّجع مميزاً تلكَ المرة ، ما كانَ لوجعٍ أن يُفرحنا أبداً .

كنتُ ابحثُ عن ورقةٍ في مكتب زميلي ذاتَ مرة ، فوقعت في يدي أوراقاً كفلَ فيها أيتام مريضٍ له مات ببطءٍ أمامه ، موقنٌ أنا للشعورِ الذي أصابه بالفقد ، أولئك المرضى الذين يبقون طويلاً أمام أعيننا يصبحون في الجانبِ الأيسر من صدورنا ، و ندعو كلّ ليلةٍ قبل الفجرِ أن يعجّل الله شفائهم ، و نودعهم أثناء خروجهم بعافيةٍ املين من اللهِ مرة أخرى أن لا نراهم مرةً أخرى في مكانِ لقائنا الأول .

أما عن أولئك الراحلين أمامنا فإننا لا ننساهم ، لا يمرون أبداً مرور العابرين ، ولا يرحلونَ منسيين ، يبقون في ذاكرةٍ تملؤها الكثير من المرضى ، بتمتماتٍ من الدعاء في كلّ مرةٍ نمرّ أمامَ سريرٍ نذكرُ مرضاهُ جميعهم ، هُناكَ أجزاءً منا تبقى معلقةً منهم ، وفي القلبِ دعواتٌ أن يكون الفردوسَ المُلتقى .



-         أثق أن أطباءٌ كهؤلاء ، موجودون في العالم وإن لم ندركُ عنهم .