الخميس، 23 يوليو 2015

فردوسُ العُمر


" كيفَ يعوّض باب من أبوابِ الجنّة ينغلقُ على وجوهنا ؟ "

سؤالها لي كانَ صفعةً على وجهي في محاولةِ بائسةِ للمواساة ، و لأني أدركُ يقيناً معنى فقدِ الجدّات ، معنىً شعوريٍّ عميق مضى على الإحساسِ به أعواماً و أعوام .

حينَ فقدتُ جدّتي أدركتُ أنني فقدتُ شيئاً عظيماً في هذا العالم ، أدركتُ حقاً أنني في تلك اللحظةُ بلا جدّة ، فثارَ من جوفي ألفَ دمعةٍ و دمعة .

كنتُ أدركُ يقيناً وأنا لم أتجاوز الحادي عشرة من عمري أن ذاك الكفن الأبيض الموضوع في وسطِ صالةَ منزلِ عمي ينتمي لجدّتي ، كنتُ أتأمل بكاءُ عماتي حولَ ذاك الجسدِ الطاهرِ النائم ، نائمٌ بسلامٍ نومٍ أبديّ ، و كنتُ أبكي حينها حينما طُلبَ مني الصّعود إلى الطابقِ العلوي ، رُبما لإدراكهم أن ذاك المَشهدُ سينطبع في ذاكرتي إنطباعاً أبديّ .

أتذكرُ حينما كنا نحاولُ مشاهدة ذاك الجثمان خلسة وهو ياخذ ، وكان ذاك الوَداعُ الأبديّ لجدتي التي رَحلت ، وعلى روحها ألفَ غصنٍ من سلام ، وطهرُ الياسمين وكلّ الحبّ و الرحماتِ من فيضِ دعواتٍ لا تفارقها أبداً .

جدّتي تلكَ التي رحلت مُبكراً لا أتذكرُ من تفاصيلها الكثير ، في الواقع أنني لا أذكرُ سوى جثمانها المغُطى بالأبيض ، لا أذكرُ تماماً كلّ ما يذكروه من مواقف ، أو أن بعض المشاهدِ مشوشّة حين تطرأ على خاطري .

جدّتي رَحلت وذهبت معها الحكايا والخرافات ، ومزاح الجدّات ، وهدايا الجدّات ودلالهن ، ذهبت معها القصص و النصائح وكلّ التوبيخات و العقوبات ، رحلَ معها كلّ ما هو متعلقٌ بالجدّات لا غيرهن ، حزنٌ جميلٌ على ذاك الفقدِ وصبرٌ جميل .

جدّتي الأخرى التي كانت على فراشِ المرض تشكو وجعاً أصابها كنتُ أذكرها ، و أذكرها حينما قالت لي " لا تنامي وأنتِ تبكين ، سترافقكِ لعنةُ الحزنِ طوال حياتكِ " ، جدّتي تلكَ اللعنةُ بفقدكِ أظنها أصبحت جزءاً مني .

رحيلها لم يَكن مفاجئاً الأمر كان متوقعاً لكنّ رنين الهاتفِ في منتصفِ الليل وأبي نائم ، أدركنا يقيناً أن ذاك الخبرَ يصلنا بطريقةٍ أو بأخرى و إنه لجارح ، اختي تجيب على الهاتف " ماتت! " ومات كلّ الشعور والإحساس ، رَحلت جدتي الأخرى .

حاولتُ تلكَ الليلة أن أمثّل البكاء أو أحاولُ أن تغرورقُ عيني بالدمعِ لكنِّ لاحقاً أدركتُ أني ملجمة ! وأن جدتي الأخرى رحلت دون عودة ، و أن جثمانها سيوارى دونَ أن أراهُ مكفناً بالأبيض ، أو أني أرى ذبولُ وجهها الطاهرِ قبل رحيلها ، أدركتُ حقاً أنها رحلت ، وأني تلكَ الليلة نمتُ بحزنٍ عميق .

مرّت أيامُ العزاءِ بحزنٍ شديد جافّ الشّعور حتى احتضنتني خالتي وهي تردد " لم يبقَ لنا شيئ " أظن أن خالتي أدركت يقيناً أن لي ولها لم يبقَ شيئاً من رائحةِ جدّتي ، و أن تحاولُ أن تخفف من ذاك الحزن المتجمد فينا حتى اجهشتُ بالبكاء " عمتي لقد رحلت جدتي " كنتُ اهذي لها بصوتِ طفلةٍ أدركت الموتَ ثلاثاً حتى تلكَ اللحظة وهي تقولُ لي " سأكون لكِ جدّة " .

عمتي الآن هيَ جدّة الجميع لكنّ الأمر ليسَ بتلكَ السّهولة هو لا يبرئ الجرحَ ولا يخفي الوجع ، الأمرَ خانقٌ في كلّ مرةٍ تذكرُ فيهِ جدّة .

رحلَ لفظُ جدّتي منذ أعوام و رحلَ معها كلّ الحكايا وكلّ شيء ، لم يبقَ من روائح جداتي سوى أبنائهن ، وفي كلّ احتياجٍ يصبحُ الأمرُ أقسى و الصبرُ على الفراقِ أمر ، الإحتياجُ لجدّة أشبهُ باحتياجنا للماءِ دونَ إرادة ، أكادُ أشعرُ اننا أشجارُ تسقى بحضنِ جدةٍ إن رحلت تذبلُ وريقةً وريقة ، ما إن أثمرتَ حتى ذبلت إحتياجاً حتى تموت .

الأمر يكادُ يفتكَ بي مع رحيلِ أيّ جدة و إن كنتُ لا أعرفها فالأمرُ موجعٌ كما هو قاتلٌ لأحفادها ، فعلاُ كانَ سؤالها " كيفَ تعوّض أبواب الجنّة " ، وأعلمُ أنني لا أملكُ أية إجابةٍ سوى الدعاء لكنّها تفتح باباً للصبر سيوصلنا بإذنه للجنّة حتى نجتمع بها .

صحوتُ هذا اليوم على حلمٍ فيه جدّتي التي لم أرها منذ رحيلها سوى في صورٍ مبعثرة ، صحوتُ لأجدَ اختي تكتب في تلك المجموعة " لا زال صوت جدتي يترددُ في أذني وهي تردد هذه الكلمات " ، ما أعجبَ اليوم !

اليوم شعرتُ أن أمي تشابهُ إلى حدٍ ما في ملامحها لجدّتي ، الأمر الذي لم ألحظه من قبل ولا أظن أن أحداً سيلاحق ذاك الشبه الذي ما إن تحدّثتُ فيه حتى ظنّ الجميع أنني حمقاء ، و اليوم وصلَ لي خبرَ تلكَ التي تعيشُ حياتي قبل عامين برحيلِ جدّتها !

آه .. أهوَ مقدرٌ أن نعيش ذاكَ الوجعَ كلانا ، أن نفقدَ الجدّات كلانا ، رُحماكَ خالقي اجعل حزنها برداً وسلاماً لقلبها ، اجعلهُ صبرٌ جميل يأخذها إلى جنّةِ المأوى .


إن القلبَ ليحزن و إن العين لتدمع وإنا على فراقكِ يا جدّتي لمحزنون ، روحٌ وريحانٌ وجنّة نعيم لجدّاتي وجدّات المسلمين يا الله . 

هناك 4 تعليقات: