الأحد، 31 مايو 2015

فضفضة طَبيب


كنتُ أستفردُ بنفسي في دورةِ المياه كلّما يُعلنُ نبضَ أحد مرضايَ توّقفه و أبكي بكاءً مريراً ، كنتُ في كلّ مرةٍ أصرخُ معلناً ساعة وفاة أحدهم أشعرُ أن جزءاً بداخلي يموت ، كأني فقدتُ زوجتي ، أو أقربُ أبنائي إليّ ، كنتُ أبكي حتى أشعرُ أنّ كلّ دمعةٍ مني قد جفّت ، و أقتربُ من المغسلة لأتوضأ ، و أصلي للهِ ركعتين و أدعو للفقيدِ و أهله .

أشعرُ أنني أحتاجُ للمواساةِ مع كلّ مريضٍ تسوءُ حالته ، وكلّ محتضرٍ بموت ، و أحتاجُ للتهاني مع كلّ شخصٍ ينجو من موتٍ وشيك ، أو يتعافى من أناتِ الوجع ، كنتُ ولا زلتُ أشعرُ أن المرضى أجزاءً مني ، يعودونَ إليّ ، ويؤلمني كلّ ما يحلّ بهم ، لم أجد أبداً المواساة بفقدِ مريض ، لم أتلقَ من أهل الفقيدِ إلا الصبرِ على مصيبِتهم ، أو كمّاً من الشتائم أنني السببُ في ذلك ولو أنهم موقنين أن الأمر ليسَ بيدي .

لم تعلمني كليّة الطبِّ أبداً أنني سأموتُ مع كلّ مريض ، لم تعلمني أن جزءاً بداخلي سينكسر ، لكنّها علمتني أن أكون أقوى كلّ مرة ، و أبذل من الجهدِ ما قد يرسم الفرحةِ في وجهِ أحبةِ طريحِ الفراش ذاك .

عملي في قسمِ الطوارئ لم يمنحني ذاك الوقتُ للبكاء ، لكنِّ ما إن أنهي كلّ عملي حتى أبقى لوحدي أجهشُ بالبكاء ، لا أنسى أبداً زملائي حينَ يأخذون قسطاً من الراحةِ في استراحةِ الأطباء ، لا أنسى الإنهيارات و البكاء ، وتبادلُ المواساة .

مُشبعينَ بالشّعور جميعهم تجاهِ الفقد ، تقشّعر أجسادنا لساعةِ الرحيل مهما حاولنا التماسك ، يضعفُ نبضنا ، و يسكنُ همسنا ، ومهما كانَ الصراخُ عالياً و الحديثُ واضحاً يكونُ مبحوحاً أبداً امام ذكرِ ساعة الرحيل ، في حضرةِ الموتِ كلنا موتى ، لن يؤذي الموتَ ذاكَ الراحل ، لكنّه يؤذينا جميعاً ، يوجعنا و يكسرنا ، لكنّه أبداً لا يضعفنا ، يجعلنا مستيقظين طوالَ الليل في انتظارِ حياةٍ أخرى بحاجةِ إلينا .

تأوهُ المرضى لم يكن يوماً ليسعدنا ، حتى وإن قلنا إن حالته تُثيرُ الاهتمامِ لا يعني ذلك أننا سعداء بالأمر ، تدافعنا لرؤيةِ حالةٍ نادرة ، ليسَ كما يفهمها البعض أننا نرى ذاك التوّجع مميزاً تلكَ المرة ، ما كانَ لوجعٍ أن يُفرحنا أبداً .

كنتُ ابحثُ عن ورقةٍ في مكتب زميلي ذاتَ مرة ، فوقعت في يدي أوراقاً كفلَ فيها أيتام مريضٍ له مات ببطءٍ أمامه ، موقنٌ أنا للشعورِ الذي أصابه بالفقد ، أولئك المرضى الذين يبقون طويلاً أمام أعيننا يصبحون في الجانبِ الأيسر من صدورنا ، و ندعو كلّ ليلةٍ قبل الفجرِ أن يعجّل الله شفائهم ، و نودعهم أثناء خروجهم بعافيةٍ املين من اللهِ مرة أخرى أن لا نراهم مرةً أخرى في مكانِ لقائنا الأول .

أما عن أولئك الراحلين أمامنا فإننا لا ننساهم ، لا يمرون أبداً مرور العابرين ، ولا يرحلونَ منسيين ، يبقون في ذاكرةٍ تملؤها الكثير من المرضى ، بتمتماتٍ من الدعاء في كلّ مرةٍ نمرّ أمامَ سريرٍ نذكرُ مرضاهُ جميعهم ، هُناكَ أجزاءً منا تبقى معلقةً منهم ، وفي القلبِ دعواتٌ أن يكون الفردوسَ المُلتقى .



-         أثق أن أطباءٌ كهؤلاء ، موجودون في العالم وإن لم ندركُ عنهم . 

هناك 5 تعليقات:

  1. حياةٌ تعيشيها في الكتابةِ، نقرأ وكأننا نعيشُ التفاصيل الصغيرة، سبحان من ألهمك هذا الأسلوب، انتقاء الكلمات تطوف بمشاعر في اعماق تدوينة. بكل صدق تستحق هذه التدوينة الوقف على كل تفاصيلها من كل الزوايا.

    احترت في اختيار النص المميز
    ولكن أجد أن الخاتمة تعطي الكثير من الميزة

    ردحذف
  2. عظيمة نُهى !
    بارك الله فيكِ، يا رب ..

    ردحذف
  3. رائعة جدا هي كتاباتك دائما .. وفقك الله لكل خير

    ردحذف
  4. فضفضة معبرة، وكلمات تحمل الكثير من المشاعر. بورك الأطباء

    ردحذف
  5. بسبب طبيبٍ واحد ، في موقفٍ قدييم ، كانت كبرياؤه واضحةً للعيان ؛
    كثيراً ما شعرتُ بالاشمئزاز من كل طبيبٍ يخطو أمامي برأسٍ مرفوع كأنّ موت أقاربي وحياتهم بيده ، كم كنتُ أبالغ في ظُلم الأطباء وتحوير الأمور والأفعال ضدّهم ..
    شكراً نُهى لأنّك قلبتِ نظرتي رأساً على عقِب؛ الأمور ليست كما تبدوا دائماً. آملُ أنّ أكفّ عن إلقاء الأحكام الخاطئة .
    شكراً ثانيةً نُهى ⭐️

    ردحذف