رَفعتُ رأسي عن ورقةِ الإجابةِ ألتقطَ قلمي الرصاصُ الذي سقطِ بحركةٍ
بسيطةٍ من يدي ، رأيتُ المُراقبة تشرح لطالبٍ على يساري ، تنّهدتُ مادةً يدي
للأمام محاولةً التخلصُ من وجعِ يديّ لطول الأسئلة ، رأيتهُ يمدُّ بيدهُ لصديقهِ
يتبادلانِ ورقة الإجابة لمادةِ التحليلاتِ الطبية ، سُحقاً أهذا جلّ همكم ؟
رغمَ محاولتي لتجاهل الأصوات حولي في امتحان علم المناعة المقرر الأصعب
بالنسبةِ لي كان لا صوتَ سوى حركةِ الأقلام وتصّفح الأوراق بالنسبةِ للمراقبين ،
بالنسبةِ لي كان التخلّص من همسِ أصواتهم التي كانت أشبهِ بحركة حشراتٍ في ثنيّات
دماغي ، في محاولة لتجميعِ الشتاتِ في آخر الوقت ، كان الغشّ مُقرفاً ومزعجاً ، و
قاتلاً بالنسبةِ لحالٍ سنكونُ عليه .
مددتُ يدي ذات مرّة في نهاية المحاضرة في الدرجِ لأخرج أوراقي ، سقطت
وريقاتٌ صغيرة ، قرأتُ ذاك الخطّ الصغير لأجد الأمراض التي تسببها " streptococcus , staphylococcus " ما هيَ إلا بكتيريا
علم الأحياء الدقيقة ، يبدو أن أحد الطلابُ معنا هو وضعها ، وأنا أدركُ جيداً من
كان جالساً في تلكَ الطاولةِ خلفي وقت الإمتحان !
أولئك الذين اشمئزت منهم نفسي ألفَ مرةٍ و مرّة ، هم نفسهم الذي سيبقون في
مُختبراتِ مشافينا ، للكشفِ عن الأمراض ، هم نفسهم المتهامسينَ وسط الإمتحانات ،
المستغلين وقتهم في تعلّم الكتابةِ بخطٍ صغير ، أو قضاء وقتٍ طويل في التخطيطِ
لأماكن جلوسهم في مكانٍ يسمح لهم جيداً بالغشّ ، و هم وعقولهم التي تبقى فارغةٍ من
أدنى معلومةٍ قد تحيي مريض .
أدركُ جيداً أنّ 90% من الإمتحانات التي خضعتُ لها في هذا التخصص وصلتني
قبلَ الإمتحان في مجموعةِ الدفعة ، وكأننا ندرسَ تخصصٍ طبيّ ، لننجح!
أنا لا يهمني الحصول على معدلٍ عالٍ و روحُ انسانٍ ستموتُ بينَ يديّ لأن
عقلي مجرّد من أي فكرةٍ قد تحيي حياته ، أو أنني لا أقومُ سوى بالخضوعِ للامتحانات
لأفرغ كلّ ما في عقليَ الباطِن في ورقةٍ سُتمزّق بعد ذلك .
رأيتها تلكَ المرّة في غرفةِ النسخِ تنظرُ إليه يقوم بتمزيق كلّ الأوراق ،
تقولُ أن عليهم تمزيق أوراقِ امتحان الدفعةِ الماضية قبل أن تخضع الدفعة الحالية
للامتحان ، وفي نفسي أقول وكأننا لا تصلنا الامتحانات التي لا يُغيّر منها سوى
سؤال أو سؤالين !
وفي نفسي ألفَ تساؤلٍ وتساؤل من المسؤول هذه المرّة : الطالب ؟ أم المعلم
المتخاذل عن كتابةِ اسئلةِ امتحانٍ جديدة ، وقد حفظ الطلاب الماضين اسئلته
فامتحانه لم يتغيّر منذ خمس سنواتٍ خلت .
رغمَ كلّ ما يحدث هُناك عقولٌ ترفعُ لها القبعة لتميّزها وعلمها و حملها
الأمانة بمنتهى الجديّة ، رغمَ ذلك ليسَ طلابُ تخصصي الوحيدين المُتهمين بهذه
الجريمة ، فإني أرى أوراق الإجاباتِ تتُناقل و الحلول تتبادل ، و كلّ المشاريع و
البحوثِ تنتقلٍ بينَ طلابِ دفعةٍ يفكرون في أنهم مضغوطين جداً ، لا يُمكنهم القيام
بأعمالهم بمفردهم !
الغش وإن كانَ منتشراً بينَ الطلبةِ في المدارس والجامعات والكليات ، و
الذي يعلمُ الجميع أنه محرّم ، و علّتهم " وتعاونوا على البر والتقوى "
و كأن الحصول على درجةٍ عالية برٌ وتقوى متجاهلين تكملةِ الآية " ولا تعاونوا
على الإثمِ والعدوان " ، عقابهُ يجب أن يكونَ أقسى من حذفِ 50%من درجاتِ
الطالب في امتحان ذاك المقرر !
العجيبُ أحياناً ان المُراقب يلحظَ الغشّ ومع ذلكَ يتجاهل ، و كأنه بذلك قد
أنقذ طلابهُ من الوقوعِ في كمينِ أسئلتهِ رُبما ، أنا لا أعلمُ حقاً ما الهدفِ
الرئيسي من التجاهل ، رُبما رغبةً في التخلّص من الطلاب و دفعهم للتخرّجِ بأقصى
سرعةٍ ممكنة ، أما عن بعض المراقبين يكلفون على أنفسهم قليلاً بالقولُ " ركزّ
في ورقتكَ يا فُلان " ، ليدرك ذاك الفُلان أن محاولتهُ تلكَ الغشِّ فاشلة
وعليهِ المحاولة بشكلٍ آخر ، أو بطريقةٍ تمكّن المراقب من تجاهلها !
يبقى السؤال مُحبطةً إجابته في كلّ مرة ، متى يشعرون بالمسؤولية تجاهِ
الأرواح التي يُحملّون مسؤوليتها ؟ ومتى يحاول المُعلم أن لا يكرر الإمتحان نفسه
باذلاً من الجهدِ القليلِ بكتابة امتحانٍ مختلف ؟ ومتى تُشدد الإدارات تعاملها
تجاه الغشّ ليسَ كأنه أشبهُ بتناولِ العلكةِ في وسطِ المحاضرة ؟
سؤالٌ ممزّق المُعالم : مُستقبلُ الطبِّ إلى أينَ يتجه ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق