كانت نظراتها لا تُغادرني وهي تشعرُ بالخوفِ رُبما أو الحيرة عن سببِ وجودي
في مكتب الطبيبةِ آن ذاك ، ظلّت تقّلب ناظريها بيني وبينَ الطبيبة و هي تشكو ما
تشعرُ بهِ ابنتها ذات الأربع عشرة ربيعاً التي ظلّت صامتة طوال الحِوار ، الأم و
ابنتها المريضة ينظران إليّ طوال الوقت علّي أهمسُ بحرف و أنا أنظرُ إلى المريضة
بتفحّص رأفةً بحالها ، حتى أتى نداء الطبيبة " جهزّي أدواتكِ " ، ما إن
أخرجتُ الإبرة حتى صرخت الأم " مُستحيل " ، قالت لها الطبيبة بكلّ هدوء "هيَ
مُتدربة لدينا وأحد واجباتها أن تقوم بسحبِ الدم من المرضى ، و قد شهدَت مسؤولة
القسم و احدى الطبيبات على قدرتها و أنها ليست المرّة الأولى التي تقوم فيها بهذا
العمل " ، غضبت الأم غضبت شديداً وبدأت بالصراخِ و اتهام الطبيبة أنهم لا يهتمون
بالمرضى و يحاولون قتلهم ورميهم للمدربين حتى يُقتلوا ، أعلنت الطبيبة بكلّ هدوء
أنها هيَ من سيقوم بسحب الدم من الإبنة و اعتذرت إلى الأم التي لا زالت تشتم وتلعن
المشفى و الأطباء وكلّ من له علاقة بوجودنا كمتدربين لنسحب من أيادي المرضى .
قالت لي الطبيبة بعد خروجهن " لا بأس كلنا مررنا بموقفٍ مماثل انتظري
المريضة التالية " ، أتت المريضة التي بعدها التي قضت ما يقارب عشرون دقيقة
تشكو طول الإنتظار و أنها انتظرت طويلاً حتى تقابل الطبيبة خديجة لأنها ترى أنها
أفضل طبيبة في ذاك المكان ، وبدأت الطبيبة تفحصها و تطرحُ عليها الأسئلة حتى وصل
المشهد " سنقوم بسحبِ عيناتُ دمٍ منكِ لإجراءِ بعض الفحوصات ، استعدي "
، كانت جملتها كصاعقةٍ أُنزلت بالمرأة بقت تقولُ لها أنا انتظرتُ طويلاً لأني لا
أشعرُ بأيِّ ألمٍ منكِ وترميني لهؤلاء ، حاولت الطبيبة اقناعها ووافقت على مضضٍ
وخوف وسلّمتني يداها التي كانت ترتجفُ خوفاً ، سألتني عن اسمي وأعطيتها اسمي
الرباعي وقالت " آه ، أنتِ ابنة المهندس فُلان " ، قلتُ لها " نعم
أنا بنته " ، فابتسمت وقالت إذاً أنا على ثقةٍ بكِ ، كان الأمرُ مزعجاً كونها
تثق بمتدربة كوني ابنة والدي الذي لا علاقةُ له بالطبّ أبداً لكن لا بأس المهم
أنها تثقُ بي الآن ولن ترتجف واخطئُ حينها ، أمسكتُ بطرفِ الابرة حتى أُدخلها ،
وبدأت تنطقُ الشهادتين وآيات القرآن بسرعةٍ كبيرة حتى أعلنتُ لها أنني انتهيت ،
وقالت بفرحٍ " آه أنتِ مثل الطبيبة خديجة لم أشعر بشيء اطلاقاً " ،
حييتني وانطلقت .
المريضةُ الثالثة ما إن شاهدت الإبرة حتى بدأت بالصراخ ارجوكِ لا تفعلي ،
اتركي دمي ، وبدأت تبكي و تولول ، الغريب أنها في العشرين من عمرها ، أمسكت يدي
وبدأت تقولُ لي ارجوكِ لا تفعلي ارجوكِ حتى تركتُ الابرة من مشهدها المؤلم وتركتُ
كل شيء خلفي وانسحبت ، عدتُ لاحقاً لتخبرني الطبيبة أنها لم تستطع سحب الدم منها
وأرسلها لأقرب مشفى حتى يشخصّون حالتها .
عن تلكَ المراة الكبيرةُ في السنّ التي خفتُ من دمائها التي سالت فورَ
إدخالي للابرة و سحبتُها سريعاً من وريدها ، لم أكن أعلم أن هذهِ الحالات قد تحدُث
حتى أخبرني الطبيب بعد هذا المشهد وكلّ ما فعلته المرأة أن ابتسمت لي وقالت لا بأس
حاولي في يدي الأخرى ، لكنِّ انسحبت و اعطاني الطبيبة الأبرة التي تسحب الدم لا
التي تُدخل في يد المريضة وقال لي أنا أدخلها واسحبي ، وما إن امتلت لنهايتها حتى
فُكّت اجزائها بغيرِ قصد و سُكبت دمائها فيها و فيّ وملء ملابسِ الطبيب ، ارتجفتُ
حينها وخفت لكنها كانت تكرر " لا بأس ، إن لم تتعلموا فينا في من ستتعلموا ،
لا بأس ابنتي " ، ظلّت الابتسامة لا تُفارقها وهي تهدئ من خوفي وقلقي عليها
وهي تردد لا بأس تعلموا ، لتكونوا كباراً !
هربتُ حينها إلى حيثُ ننتمي و نحنُ نحكي للمسؤولة عمّا حدث و كلّي قلقٌ
عليها و أخبرتني أنّ الخطأ في المصنع وأنهم واجهوا نفس المشهد بسببِ رداءة صنع بعض
الإبر ، أتت في نهاية اليوم لتسلم علينا العجوزُ الباسمة التي لا أعلم من قام بسحب
الدم منها بعدها ، راودني طيفها طوال اليوم و لم أنم ليلتها ضميرٌ قاتلٌ كان
يحاربني أنني أوجعتها فيما كانت تهدئ من روعي وتقولُ لي لا شيء موجع .
عن ذاك الطفل الذي كان يصرخُ ويبكي و فيما كنا ثلاثة مع والده نحاولُ
الامساك بيده ، وكنت ارتجف ، كانا اللذان معي ينظران إليّ وأنا أكادُ ارتجفُ معه و
عيناي اغرورقت بالدمع من صراخه و خوف أمه التي كانت
تبتعد من كلّ صرخة ، كنتُ
انظرُ للطبيبة بعدها و اقولُ كيف قاومت الكثير من البكاء و الكثير من الوجع .
إلى كلّ مريض خائفٌ من غلطةِ متدربٍ على يده ، ذاك المتدرب رُبما قضى ليلة
أمس في محاولة الإدراك يقيناً ما سيقوم بهِ على يديك ، ذاك المتدرب غاص في
المكتبات بحثاً عن معلومةٍ سيعملُ بها لصحتك ، ذاك المتدرب قضى أياماً متنقلاً بين
مكتب طبيبٍ لآخر لأجل ألا يخطئ فيك ، ذاك المتدرب لا ينام الليل فيما تغلقُ كلّ
أضواء المنزل وهو يقرأ ويذاكر ، ذاك المتدرب يرمي ورقة اسئلة الامتحان تعطى إليه
قبل الامتحان حتى يكتب الذي يعرف كي لا يظلمك لأجلِ درجةٍ أو غيرها ، ذاك المتدرب
لم يحضر جمعات العائلة طويلاً ، لم يرافقهم في الرحلات ، و فوّت الكثير من
المناسبات ، ليكون بالصورة التي ترضيك ، ولينام مرتاح البال حينما لا يخطئ فيك .
فيما يعتقدُ الكثير أننا فاشلين كحال الطبّ لدينا ، هم في الواقع لا ينظرون
لعمقِ الأمور ، ولا يعلمون ما يحدثُ في الخفاء ، لا أنكرُ وجود الأخطاء الطبيّة
ولكن تبقى بعض القلوب التي يزاحمها الضميرُ في عملها فتجتهد فيهِ بحبّ ، و فيما
يبقون يكررون على مسامع أذني كيف تنجحين وأنتِ غبية ، أو يقولون أني فاشلة هم لا
يدركون حقاً ما الجهدُ العظيم الذي نمارسه !
العقولُ العقيمة التي تظنّ أن وجودنا وعدمنا سواء فلتحاولُ فقط أن تحدد
مكان إدخال الإبرة و عمقها في يديّ مريض ، وفيما يبقى الكثيرين يقولونَ لي أنني
" دفشة " و أن المرضى سيموتون على يدي أنتم حقاً حمقى ، طال الزمان و إن
قصر سأثبت لكم ذلك .
حينما يأتي ذاك اليوم الذي أصحو فيهِ فجراً لأذهب فيه للمشفى مرتديةً معطفي
الأبيض ، أو في منواباتي الليلية أمضي تاركةً النوم خلفي ، لن تستطيع وقتها أن
تشتمني لأنك ببساطة ستحتاجُ إليّ يوماً ما ، وبتفصيلٍ أكبر ستدرك الحمق الذي أنت
عليه .
ذاتَ يوم ستصحو – أبعد الله عنك السوء و البلاء – في حاجةٍ لطبيب وممرض و
مخبتراتيّ وصيدلاني و أيٍّ كان يعملُ في المشفى ، فادعو لهم أن يُباركَ في جهودهم
.
فعلا .. الكثير لا يدرك عنهم.. ببساطة .. انتي تستحقين ذلك المعطف اجلا ام عاجلا..
ردحذفشُكراً نبراس .
حذفيا رباه .. لا ادري هل انتابني نوبه صامته من الضحك لتلك الردود التي لا تعي الان ان ترمي حبال ضجرها لمن لا يستحقون اذا لا تثقون اذن لماذا انتم هناك ايها المرضي حملتكم اوجاعكم والمكم الي حيث تعلمون انه العلاج اذن تدخلون من الباب لتأخذونه فما بالكم لا تبتسمون لذات الرداء الابيض هم يسمعكم حينما تشكون وهم نفسهم يحاولون فوظيفتهم تشريف وليس تكليف هل تعلمون ...
ردحذفهي البدايه لتلك الاطياف فكونوا بخير
خلف السراب
انت هنا .. واقع!
حذفشكراً عميقاً جداً لأنكَ هُنا
لتكُن بخير .
في حين حاجتي الماسّة للقدوة أنتِ قدوة يا نُهى 💎
ردحذففخورة بكِ غدير .
حذفدكتورة نُهى يا عظيمة💗، أعانكم الله على تأديةِ المهمةِ على أكملِ وجه، ونحنُ نثقُ بكم 🍃
ردحذفآهٍ ما أجملَ تلكَ المرأة العجوز, وفقكِ الله دكتورة نهى في مهمتكِ في هذه الحياة.
ردحذف