الأحد، 19 أبريل 2015

شغفٌ عن عاميها !


تبقى هيَ ما يرتشف مني بؤس العالم حينَ يبهتُ كلّ الجمالَ فيّ ، هي ما تبتسمُ كلّ مرةٍ في وجهي مادةً ذراعيها تضمني ، لأنام ملء جُفوني وتهدأ رجفةَ الألم ، تبقى تمسحُ على ظهري كلما تكوّرتُ وجعاً ، وكلما تقلّبت أرتجي ألماً .

رغمَ جرحِ فقدِ الجدّات كانت هيَ الجدّة ، مستمعةً لحكاياها كلّ ليلة ، لتلكَ الخرافات والأساطير التي لا ترويها إلا الجدات ، كانت تجيد نسجها بإتقان وكأنها بدأت منها ، تغزلها بمهارةٍ تامة تأسرني بكامل حواسي للخوضِ فيها ، لسماعِ صوتها المَبحوح يروي بشغف  ، هيَ طبطبةٌ على وجع فقدِ الجدات ، و أنسٌ من جراحِ الأصدقاء ، لطفٌ مرسومُ المُعالمُ في ملامحها و كأن طهرَ العالمِ كله مغروس فيها وبسمتها .

" تمنيتُ أن أكون غيمة " لأنها تحتَ بدرِ نيسان  قبل عامين قالت لي أن طهر الغيمِ لا يشابهه شيء ، و أني إذا ما كنتُ أشبه الغيم بدوتُ نفحةً من الجنّة وسط يئس هذا العالم  ، لسببٍ ما هيَ تداوي الدمعَ ببسمةٍ تُزيلُ كلّ شيء .

الله أعلم! كمّ المرات التي بكيتُ بينَ أضلعها وجعاً و كم من حلمٍ بنيتهُ تحتَ ظلالها  ،كبرت أحلامي فيها وكبر معها شغفاً لا يغيب  ، ليت كلّ العالم باتساعها ، و إن ضاقتِ الأرضُ بما رحبت هيَ كلّ الأرض والسماء ، هيَ فجرٌ كونيّ لا ينتهي ليلهُ ولا تأفلُ شمسه ، قدسيّةُ الأحلامِ بدأت باسمها وكأنها أول القِبلات و آخر التلاوات السرمديّة ، كأنها بشرىً من الجنّة توقظني من غفلتي كلّ ليلة ، وكلّ فجريّةٍ و عصريّة .

و كأنها شمسُ نيسان الربيعيّة الدافئة ، المُتخبطة بين حرارةِ الصيف ورجفة الشتاء ، و كأنّ طهرَ العالمُ كله مكمونٌ في شجرة ياسمين ، لا تُذبلها شمسٌ حارقة ، أو يُغرقها مطر ، طهرٌ مجسّد كهالةِ من نور بينَ كفيّ سحابة ، لا تَطالها أيُّ يدّ مهما امتدت عالياً .

حينَ نفى قلبها بُهت هذا العالم ، ابتسمت في كلّ مرةٍ رأت دمعة ، وطَبطبَت على المُتونِ كلّما اشتدّ بها الضعف ، دهشةٌ خففت ذاكَ الإحباط ، و طيفٌ سماويٌّ يبني ربيعاً زاهراً كلّ مرة ، رغمَ انها لم تُزهر مؤخراً إلا أنها في قلبي جناناً فارِهة ، تَزهو الحياةُ بها ، ويُثمرُ زهرها ، كالحبّ تُعطي للحروفِ سَماء ، هيَ  درّةٌ أحلامُها أشياء .

-        لطالما تمنيّت أن أكونَ مُدوِّنة ، أو أكون صاحبةِ أسطورةٍ تُسمى " هيَ الأشياء تعرفني .. و أعرفها كما الأحلام " ، لطالما كنتُ أتمنى أن اكتب ليقرأها الأحفادُ بعدي إن تلاشيت ، يرتوي منها الأبناءُ بعد الفقدِ ، وكلّ حينٍ كلما احتاجوا لذاك الحديث ، تمنيّت أن اكتب لألا يفقدني الأصدقاءُ أبداً و إن رحلت .

فقدتُ أجدادي قبلَ أن يتمّوا قراءة تلكَ القصةِ لي ، دونَ أن أتشبّعُ من خرافاتهم وأساطيرهم ، دون أن أتذوّق أحاديثهم الطويلة و حكاياهم الغريبة ، تمنيّت لو أن أحدهم كان يكتب ، لأقرأ ، لو كانوا يكتبون تفاصيلهم حتى أعيشها الآن ، دونَ أن أكفكفَ دمعي كلما ذكر أحدهم أجداده ، و دونَ أن أتمنى كلّ ليلةٍ زيارةٌ لهم في أحلامي ، لو كتبوا لأدركتُ ملامحهم الآن ، لعرفتُ كيفَ كانوا دونَ أن يروي لي عنهم أحد ، لكانوا وحدهم يكتبون لحفيدتهم حينَ تكبر .. حتى تقرأ !

لطالما تمنيتُ لو كانت " رحمة  الله عليها " تكتب حتى لا أصبحَ منكسرةَ حينَ أفقد رسائلها ، كنتُ سأعيشُ معها دونَ فقد ، كانت ستحكي لي كلّ ليلةٍ حرفاً بنكهةٍ مختلفة ، دونَ يقظةٍ في عمقِ الليل احتياجاً لأحرفها !

أدوّن ، لستُ لأعجبَ أحد ، و ليسَ لشيوعِ الأمر أو لأن أحدهم سيقرأ ، أدوّن لنفسِ الأمرِ الذي تمنيّته لو أن أجدادي ، أصحابي ، كلّ الراحلين لو كانوا يكتبون ، لو أنهم كتبوا لعشتُ معهم الآن دونَ فقد ، لم يكتبوا قبلي ، لكنِّ كتبتُ لألا يفقدني أحداً ، ليجدني كلّ الصحاب هُنا أطبطبَ عليهم ، ليعيشَ أحفادي زهرَ جدّتهم ، ليقرأ أبنائي حديثٌ مرسولٌ إليهم قبلَ ولادتهم بسنوات ، ليكونَ كلّ من كانَ هُنا يوماً ربيعاً زاهراً !

إن كانَ كاتباً سيكونُ عظيماً ، أنا لن أربي أبناءً لا يُفرّقونَ بينَ الراوية و القصة ، ولا بينَ حرفي الظاء و الضاد ، لن أربي أبناءً يتجاهلونَ الضمّ في أولِ اسمي ، أو أنهم لا يعرفون متى تكونُ التاء مربوطة ، لن أخلّف ابناً يكرهُ العربيّة ، ولا يعرف ما تعني مدوّنة ، ولا يستشعر قدسيّة ما كانت عليهِ التدوينة ، لن أخلفَ ابناً لا يمجّد الحرف ، أو أنه يرى الكاتب بعثرةُ مشاعر ، أو أنه ينظرُ لحرفٍ ما دونَ أن يبتسم ، أو أنه لن يكون كاتباً .


كلّ الذين دوّنت لهم هنا يوماً سيقرأون .




بعددِ أيامِ هذه المدوّنة – تمت .

هناك تعليقان (2):

  1. لطفٌ مرسومُ المُعالمُ في ملامحها و كأن طهرَ العالمِ كله مغروس فيها وبسمتها.

    إنهَا تعكسكِ كَمَا عكستِ الحياةَ فيهَا :")
    هنيئًا لكِ بهَا ولهَا بكِ ❤️ ..

    ردحذف
  2. محفوفة بهالة الطهر..
    أشعر بالسعادة كلما مررت بها..

    ردحذف