تبقى
هيَ ما يرتشف مني بؤس العالم حينَ يبهتُ كلّ الجمالَ فيّ ، هي ما تبتسمُ كلّ مرةٍ
في وجهي مادةً ذراعيها تضمني ، لأنام ملء جُفوني وتهدأ رجفةَ الألم ، تبقى تمسحُ
على ظهري كلما تكوّرتُ وجعاً ، وكلما تقلّبت أرتجي ألماً .
رغمَ
جرحِ فقدِ الجدّات كانت هيَ الجدّة ، مستمعةً لحكاياها كلّ ليلة ، لتلكَ الخرافات
والأساطير التي لا ترويها إلا الجدات ، كانت تجيد نسجها بإتقان وكأنها بدأت منها ،
تغزلها بمهارةٍ تامة تأسرني بكامل حواسي للخوضِ فيها ، لسماعِ صوتها المَبحوح يروي
بشغف ،
هيَ طبطبةٌ على وجع فقدِ الجدات ، و أنسٌ من جراحِ الأصدقاء ، لطفٌ مرسومُ
المُعالمُ في ملامحها و كأن طهرَ العالمِ كله مغروس فيها وبسمتها .
" تمنيتُ أن أكون غيمة
" لأنها تحتَ بدرِ نيسان قبل عامين قالت لي أن طهر الغيمِ لا يشابهه شيء
، و أني إذا ما كنتُ أشبه الغيم بدوتُ نفحةً من الجنّة وسط يئس هذا العالم ، لسببٍ
ما هيَ تداوي الدمعَ ببسمةٍ تُزيلُ كلّ شيء .
الله
أعلم! كمّ المرات التي بكيتُ بينَ أضلعها وجعاً و كم من حلمٍ بنيتهُ تحتَ ظلالها ،كبرت
أحلامي فيها وكبر معها شغفاً لا يغيب ، ليت
كلّ العالم باتساعها ، و إن ضاقتِ الأرضُ بما رحبت هيَ كلّ الأرض والسماء ، هيَ
فجرٌ كونيّ لا ينتهي ليلهُ ولا تأفلُ شمسه ، قدسيّةُ الأحلامِ بدأت باسمها وكأنها
أول القِبلات و آخر التلاوات السرمديّة ، كأنها بشرىً من الجنّة توقظني من غفلتي
كلّ ليلة ، وكلّ فجريّةٍ و عصريّة .
و
كأنها شمسُ نيسان الربيعيّة الدافئة ، المُتخبطة بين حرارةِ الصيف ورجفة الشتاء ،
و كأنّ طهرَ العالمُ كله مكمونٌ في شجرة ياسمين ، لا تُذبلها شمسٌ حارقة ، أو
يُغرقها مطر ، طهرٌ مجسّد كهالةِ من نور بينَ كفيّ سحابة ، لا تَطالها أيُّ يدّ
مهما امتدت عالياً .
حينَ
نفى قلبها بُهت هذا العالم ، ابتسمت في
كلّ مرةٍ رأت دمعة ، وطَبطبَت على المُتونِ كلّما اشتدّ بها الضعف ، دهشةٌ خففت
ذاكَ الإحباط ، و طيفٌ سماويٌّ يبني ربيعاً زاهراً كلّ مرة ، رغمَ انها لم تُزهر
مؤخراً إلا أنها في قلبي جناناً فارِهة ، تَزهو الحياةُ بها ، ويُثمرُ زهرها ،
كالحبّ تُعطي للحروفِ سَماء ، هيَ درّةٌ أحلامُها أشياء .
-
لطالما
تمنيّت أن أكونَ مُدوِّنة ، أو أكون صاحبةِ أسطورةٍ تُسمى " هيَ الأشياء
تعرفني .. و أعرفها كما الأحلام " ، لطالما كنتُ أتمنى أن اكتب ليقرأها
الأحفادُ بعدي إن تلاشيت ، يرتوي منها الأبناءُ بعد الفقدِ ، وكلّ حينٍ كلما احتاجوا
لذاك الحديث ، تمنيّت أن اكتب لألا يفقدني الأصدقاءُ أبداً و إن رحلت .
فقدتُ
أجدادي قبلَ أن يتمّوا قراءة تلكَ القصةِ لي ، دونَ أن أتشبّعُ من خرافاتهم
وأساطيرهم ، دون أن أتذوّق أحاديثهم الطويلة و حكاياهم الغريبة ، تمنيّت لو أن
أحدهم كان يكتب ، لأقرأ ، لو كانوا يكتبون تفاصيلهم حتى أعيشها الآن ، دونَ أن
أكفكفَ دمعي كلما ذكر أحدهم أجداده ، و دونَ أن أتمنى كلّ ليلةٍ زيارةٌ لهم في
أحلامي ، لو كتبوا لأدركتُ ملامحهم الآن ، لعرفتُ كيفَ كانوا دونَ أن يروي لي عنهم
أحد ، لكانوا وحدهم يكتبون لحفيدتهم حينَ تكبر .. حتى تقرأ !
لطالما تمنيتُ لو كانت "
رحمة الله عليها " تكتب حتى لا أصبحَ
منكسرةَ حينَ أفقد رسائلها ، كنتُ سأعيشُ معها دونَ فقد ، كانت ستحكي لي كلّ ليلةٍ
حرفاً بنكهةٍ مختلفة ، دونَ يقظةٍ في عمقِ الليل احتياجاً لأحرفها !
أدوّن ، لستُ لأعجبَ أحد ، و ليسَ
لشيوعِ الأمر أو لأن أحدهم سيقرأ ، أدوّن لنفسِ الأمرِ الذي تمنيّته لو أن أجدادي
، أصحابي ، كلّ الراحلين لو كانوا يكتبون ، لو أنهم كتبوا لعشتُ معهم الآن دونَ
فقد ، لم يكتبوا قبلي ، لكنِّ كتبتُ لألا يفقدني أحداً ، ليجدني كلّ الصحاب هُنا
أطبطبَ عليهم ، ليعيشَ أحفادي زهرَ جدّتهم ، ليقرأ أبنائي حديثٌ مرسولٌ إليهم قبلَ
ولادتهم بسنوات ، ليكونَ كلّ من كانَ هُنا يوماً ربيعاً زاهراً !
إن كانَ كاتباً سيكونُ عظيماً ، أنا
لن أربي أبناءً لا يُفرّقونَ بينَ الراوية و القصة ، ولا بينَ حرفي الظاء و الضاد
، لن أربي أبناءً يتجاهلونَ الضمّ في أولِ اسمي ، أو أنهم لا يعرفون متى تكونُ
التاء مربوطة ، لن أخلّف ابناً يكرهُ العربيّة ، ولا يعرف ما تعني مدوّنة ، ولا
يستشعر قدسيّة ما كانت عليهِ التدوينة ، لن أخلفَ ابناً لا يمجّد الحرف ، أو أنه
يرى الكاتب بعثرةُ مشاعر ، أو أنه ينظرُ لحرفٍ ما دونَ أن يبتسم ، أو أنه لن يكون
كاتباً .
كلّ
الذين دوّنت لهم هنا يوماً سيقرأون .
بعددِ
أيامِ هذه المدوّنة – تمت .