الأحد، 8 يناير 2017

معطفٌ أبيض - 5


لقد مرّ الكثيرُ من الوقت مذ تلك الزيارة الأولى لحرم المعهدِ مع أختي، ومرّ الكثير من الوقت على تلكَ الزيارة الأولى مع عمي إلى المكانِ نفسه. مرّت ثلاثُ سنواتٍ طوال بعد قراري أن أدرس الطب الحيوي ( المختبرات الطبيّة ). كان قراري حازماً فجأة أني لا أريد أن أكون ممرضة، و مرّ وقتٌ طويل على معرفتي (الشلة) التي أصبحنا نادراً ما نلتقي بسبب جداولنا المتعارضة، بعد أن كنا معاً في كل لحظةٍ و ساعة.

إنني أشعرُ بطمأنينة الجنين بداخل رحمِ أمه كلما دخلتُ إلى المختبر، بالتحديد مختبر بنك الدم، إن الشعور نفسه يخالجني في كلّ مرة أمسك بأنابيب الدم بينَ يديّ، كأنني أمسكُ بأحلامي تباعاً خوفاً من ابتعادها عني، أو سقوطها و انكسارها.

و أشعرُ بسكينةِ الإمام في محرابه كلما أغمضتُ عيني في مختبرِ الأنسجة، إنني أدركُ تماماً معنى الشعور حين قال لي الطبيب ليزلي إنه لا يستخدم قفاز حين يمسك بالأعضاء ليشعر بها، إنني أتوقُ لأكون مثله أمسكُ بها و أشعر بها مثله، غير أن هذا الأمر محرمٌ علينا كطلبة! رغم ذلك أنا أمسكتُ بها من خلفِ عينيه، أمسكتُ بها و استنشقتُ رائحة الفورمالين العالقة بها كأنها أفضلُ عطرٍ في العالم، أو كأنها عطرُ أبي الذي أحبه! أغمضتُ عيني طويلاً و تنفست تلكَ الرائحة بحبّ حتى نظر إليّ الطبيب معاتباً، حيث أن الأمر محرمٌ علينا  و إني مدركةٌ لذلك جيداً.

أنا لا أخافُ أبداً من ذاك الجنين المتمسك بخيطٍ من الأمل على هاويةِ الموت في زجاجةٍ موضوعة في أحد أطراف المختبر، الجنين الذي سمعت البعض يقول إن مشهده مخيف، لكنّني استمر بجلب الأصدقاء إليه و أقول انظروا إليه " لطيييييف! "، إن المسؤول عن المختبر وحده يعلم عدد الأشخاص و الأصدقاء الذين أحضرتهم من أقاصي أقسامهم لينظروا إليه، ويندهشوا بنفس الدهشة التي أشعرُ بها، في كلّ نظرةٍ إليه، و إني سمعته يقولُ مرة إنه صديق نهى ، عموماً أظنني أكثر الملاحظين لدرجة شفافية جلده حتى يمكن مع التركيز الشديد رؤية دماغه.

لا زلتُ أحلمُ كثيراً و أذكرُ التخرّج في كل مرة أتذكر فيها أنه تبقى لي من الزمن ثلاثة فصول دراسية، و أتخرّج بسلامِ، كسلام المسلمين يوم إذ دخلوا بكةَ في يومٍ مبارك، و أدركُ يقيناً أنه سيكون يوماً مبارك. لا زلتُ أحلم بالقسمِ الطبي في كلّ مرة أجتهد فيها لامتحان ما أن أردد ( أقسم بالله العلي العظيم، أن أكون مخلصاً لله، و الوطن و جلالة السلطان، و أن أحافظ على شرفِ المهنةِ و سمعتها، و أن أقوم بواجباتي بكلّ أمانةٍ و إخلاص، و أن أتعاون مع زملائي في العمل، و أن أكون على الدوام في سبيلِ رحمةِ الله، و الله على ما أقول شهيد ) ، أن أتخرّج بسلامِ العالمين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق