"
كيفَ يعوّض باب من أبوابِ الجنّة ينغلقُ على وجوهنا ؟ "
سؤالها لي كانَ
صفعةً على وجهي في محاولةِ بائسةِ للمواساة ، و لأني أدركُ يقيناً معنى فقدِ
الجدّات ، معنىً شعوريٍّ عميق مضى على الإحساسِ به أعواماً و أعوام .
حينَ فقدتُ جدّتي
أدركتُ أنني فقدتُ شيئاً عظيماً في هذا العالم ، أدركتُ حقاً أنني في تلك اللحظةُ
بلا جدّة ، فثارَ من جوفي ألفَ دمعةٍ و دمعة .
كنتُ أدركُ يقيناً
وأنا لم أتجاوز الحادي عشرة من عمري أن ذاك الكفن الأبيض الموضوع في وسطِ صالةَ
منزلِ عمي ينتمي لجدّتي ، كنتُ أتأمل بكاءُ عماتي حولَ ذاك الجسدِ الطاهرِ النائم
، نائمٌ بسلامٍ نومٍ أبديّ ، و كنتُ أبكي حينها حينما طُلبَ مني الصّعود إلى
الطابقِ العلوي ، رُبما لإدراكهم أن ذاك المَشهدُ سينطبع في ذاكرتي إنطباعاً أبديّ
.
أتذكرُ حينما كنا
نحاولُ مشاهدة ذاك الجثمان خلسة وهو ياخذ ، وكان ذاك الوَداعُ الأبديّ لجدتي التي
رَحلت ، وعلى روحها ألفَ غصنٍ من سلام ، وطهرُ الياسمين وكلّ الحبّ و الرحماتِ من
فيضِ دعواتٍ لا تفارقها أبداً .
جدّتي تلكَ التي
رحلت مُبكراً لا أتذكرُ من تفاصيلها الكثير ، في الواقع أنني لا أذكرُ سوى جثمانها
المغُطى بالأبيض ، لا أذكرُ تماماً كلّ ما يذكروه من مواقف ، أو أن بعض المشاهدِ
مشوشّة حين تطرأ على خاطري .
جدّتي رَحلت وذهبت
معها الحكايا والخرافات ، ومزاح الجدّات ، وهدايا الجدّات ودلالهن ، ذهبت معها
القصص و النصائح وكلّ التوبيخات و العقوبات ، رحلَ معها كلّ ما هو متعلقٌ بالجدّات
لا غيرهن ، حزنٌ جميلٌ على ذاك الفقدِ وصبرٌ جميل .
جدّتي الأخرى التي
كانت على فراشِ المرض تشكو وجعاً أصابها كنتُ أذكرها ، و أذكرها حينما قالت لي
" لا تنامي وأنتِ تبكين ، سترافقكِ لعنةُ الحزنِ طوال حياتكِ " ، جدّتي
تلكَ اللعنةُ بفقدكِ أظنها أصبحت جزءاً مني .
رحيلها لم يَكن
مفاجئاً الأمر كان متوقعاً لكنّ رنين الهاتفِ في منتصفِ الليل وأبي نائم ، أدركنا
يقيناً أن ذاك الخبرَ يصلنا بطريقةٍ أو بأخرى و إنه لجارح ، اختي تجيب على الهاتف
" ماتت! " ومات كلّ الشعور والإحساس ، رَحلت جدتي الأخرى .
حاولتُ تلكَ
الليلة أن أمثّل البكاء أو أحاولُ أن تغرورقُ عيني بالدمعِ لكنِّ لاحقاً أدركتُ
أني ملجمة ! وأن جدتي الأخرى رحلت دون عودة ، و أن جثمانها سيوارى دونَ أن أراهُ
مكفناً بالأبيض ، أو أني أرى ذبولُ وجهها الطاهرِ قبل رحيلها ، أدركتُ حقاً أنها
رحلت ، وأني تلكَ الليلة نمتُ بحزنٍ عميق .
عمتي الآن هيَ
جدّة الجميع لكنّ الأمر ليسَ بتلكَ السّهولة هو لا يبرئ الجرحَ ولا يخفي الوجع ،
الأمرَ خانقٌ في كلّ مرةٍ تذكرُ فيهِ جدّة .
رحلَ لفظُ جدّتي
منذ أعوام و رحلَ معها كلّ الحكايا وكلّ شيء ، لم يبقَ من روائح جداتي سوى أبنائهن
، وفي كلّ احتياجٍ يصبحُ الأمرُ أقسى و الصبرُ على الفراقِ أمر ، الإحتياجُ لجدّة
أشبهُ باحتياجنا للماءِ دونَ إرادة ، أكادُ أشعرُ اننا أشجارُ تسقى بحضنِ جدةٍ إن
رحلت تذبلُ وريقةً وريقة ، ما إن أثمرتَ حتى ذبلت إحتياجاً حتى تموت .
الأمر يكادُ يفتكَ
بي مع رحيلِ أيّ جدة و إن كنتُ لا أعرفها فالأمرُ موجعٌ كما هو قاتلٌ لأحفادها ،
فعلاُ كانَ سؤالها " كيفَ تعوّض أبواب الجنّة " ، وأعلمُ أنني لا أملكُ
أية إجابةٍ سوى الدعاء لكنّها تفتح باباً للصبر سيوصلنا بإذنه للجنّة حتى نجتمع
بها .
صحوتُ هذا اليوم
على حلمٍ فيه جدّتي التي لم أرها منذ رحيلها سوى في صورٍ مبعثرة ، صحوتُ لأجدَ
اختي تكتب في تلك المجموعة " لا زال صوت جدتي يترددُ في أذني وهي تردد هذه
الكلمات " ، ما أعجبَ اليوم !
اليوم شعرتُ أن
أمي تشابهُ إلى حدٍ ما في ملامحها لجدّتي ، الأمر الذي لم ألحظه من قبل ولا أظن أن
أحداً سيلاحق ذاك الشبه الذي ما إن تحدّثتُ فيه حتى ظنّ الجميع أنني حمقاء ، و
اليوم وصلَ لي خبرَ تلكَ التي تعيشُ حياتي قبل عامين برحيلِ جدّتها !
آه .. أهوَ مقدرٌ
أن نعيش ذاكَ الوجعَ كلانا ، أن نفقدَ الجدّات كلانا ، رُحماكَ خالقي اجعل حزنها
برداً وسلاماً لقلبها ، اجعلهُ صبرٌ جميل يأخذها إلى جنّةِ المأوى .
إن القلبَ ليحزن و
إن العين لتدمع وإنا على فراقكِ يا جدّتي لمحزنون ، روحٌ وريحانٌ وجنّة نعيم
لجدّاتي وجدّات المسلمين يا الله .