كنتُ أستفردُ بنفسي في دورةِ المياه كلّما يُعلنُ نبضَ أحد مرضايَ توّقفه و
أبكي بكاءً مريراً ، كنتُ في كلّ مرةٍ أصرخُ معلناً ساعة وفاة أحدهم أشعرُ أن
جزءاً بداخلي يموت ، كأني فقدتُ زوجتي ، أو أقربُ أبنائي إليّ ، كنتُ أبكي حتى
أشعرُ أنّ كلّ دمعةٍ مني قد جفّت ، و أقتربُ من المغسلة لأتوضأ ، و أصلي للهِ
ركعتين و أدعو للفقيدِ و أهله .
أشعرُ أنني أحتاجُ للمواساةِ مع كلّ مريضٍ تسوءُ حالته ، وكلّ محتضرٍ بموت
، و أحتاجُ للتهاني مع كلّ شخصٍ ينجو من موتٍ وشيك ، أو يتعافى من أناتِ الوجع ،
كنتُ ولا زلتُ أشعرُ أن المرضى أجزاءً مني ، يعودونَ إليّ ، ويؤلمني كلّ ما يحلّ
بهم ، لم أجد أبداً المواساة بفقدِ مريض ، لم أتلقَ من أهل الفقيدِ إلا الصبرِ على
مصيبِتهم ، أو كمّاً من الشتائم أنني السببُ في ذلك ولو أنهم موقنين أن الأمر ليسَ
بيدي .
لم تعلمني كليّة الطبِّ أبداً أنني سأموتُ مع كلّ مريض ، لم تعلمني أن
جزءاً بداخلي سينكسر ، لكنّها علمتني أن أكون أقوى كلّ مرة ، و أبذل من الجهدِ ما
قد يرسم الفرحةِ في وجهِ أحبةِ طريحِ الفراش ذاك .
عملي في قسمِ الطوارئ لم يمنحني ذاك الوقتُ للبكاء ، لكنِّ ما إن أنهي كلّ
عملي حتى أبقى لوحدي أجهشُ بالبكاء ، لا أنسى أبداً زملائي حينَ يأخذون قسطاً من
الراحةِ في استراحةِ الأطباء ، لا أنسى الإنهيارات و البكاء ، وتبادلُ المواساة .
مُشبعينَ بالشّعور جميعهم تجاهِ الفقد ، تقشّعر أجسادنا لساعةِ الرحيل مهما
حاولنا التماسك ، يضعفُ نبضنا ، و يسكنُ همسنا ، ومهما كانَ الصراخُ عالياً و
الحديثُ واضحاً يكونُ مبحوحاً أبداً امام ذكرِ ساعة الرحيل ، في حضرةِ الموتِ كلنا
موتى ، لن يؤذي الموتَ ذاكَ الراحل ، لكنّه يؤذينا جميعاً ، يوجعنا و يكسرنا ،
لكنّه أبداً لا يضعفنا ، يجعلنا مستيقظين طوالَ الليل في انتظارِ حياةٍ أخرى
بحاجةِ إلينا .
تأوهُ المرضى لم يكن يوماً ليسعدنا ، حتى وإن قلنا إن حالته تُثيرُ
الاهتمامِ لا يعني ذلك أننا سعداء بالأمر ، تدافعنا لرؤيةِ حالةٍ نادرة ، ليسَ كما
يفهمها البعض أننا نرى ذاك التوّجع مميزاً تلكَ المرة ، ما كانَ لوجعٍ أن يُفرحنا
أبداً .
كنتُ ابحثُ عن ورقةٍ في مكتب زميلي ذاتَ مرة ، فوقعت في يدي أوراقاً كفلَ
فيها أيتام مريضٍ له مات ببطءٍ أمامه ، موقنٌ أنا للشعورِ الذي أصابه بالفقد ،
أولئك المرضى الذين يبقون طويلاً أمام أعيننا يصبحون في الجانبِ الأيسر من صدورنا
، و ندعو كلّ ليلةٍ قبل الفجرِ أن يعجّل الله شفائهم ، و نودعهم أثناء خروجهم
بعافيةٍ املين من اللهِ مرة أخرى أن لا نراهم مرةً أخرى في مكانِ لقائنا الأول .
أما عن أولئك الراحلين أمامنا فإننا لا ننساهم ، لا يمرون أبداً مرور
العابرين ، ولا يرحلونَ منسيين ، يبقون في ذاكرةٍ تملؤها الكثير من المرضى ،
بتمتماتٍ من الدعاء في كلّ مرةٍ نمرّ أمامَ سريرٍ نذكرُ مرضاهُ جميعهم ، هُناكَ
أجزاءً منا تبقى معلقةً منهم ، وفي القلبِ دعواتٌ أن يكون الفردوسَ المُلتقى .
-
أثق أن أطباءٌ
كهؤلاء ، موجودون في العالم وإن لم ندركُ عنهم .