الأربعاء، 24 فبراير 2016

معطفٌ أبيض - 3




قالت لي :  أنا لا أجبر أحداً للاستماع إليّ ، إن كان يريد فله ذلك و إن كان لا فهوَ حُر .
أمام ناظريّ شيءٌ من الدهشة و أنا أسأل لنفسي كيف لنا ألا نسمع ، كيف للبعضِ وبكلّ وقاحةٍ أن يخرّج هاتفه و الطبيب أمامه يتحدث عن حياةِ شخصٍ كان على وشكِ الموت ، أو أنه يحاول الآن تقبّل فكرة الرحيل ، وأن أهله يكفكفونَ دموعهم في الخفاءِ متظاهرينَ بشيءٍ من القوّة ، علّه يتمسك بشيءٍ من الأمل .

كيف لنا أن نتجاهل ملامح الإندهاش في وجوهنا و نحنُ نقوم بعدِّ مئات الخلايا التي في غير موقعها لأن صاحبها في المرحلةِ الأخيرة من اللوكيميا ( سرطان الدم ) ، كيفَ لقلوبنا أن تتحمل تلكَ التشوّهات و ذاك الكمّ الهائل من الوجعِ أمام ناظرينا ، وكيف لنا و بكلِّ غباءٍ أن نغشّ في محاولةِ غسل خلايا الدمِ الحمراء و لا ندري أن مريضٍ سيموتُ جراء هذا الفعل من محاولة تجاهل شرح المسؤولة عن المختبر ، وكيف لا نفكر أننا قد يكون بين يدينا دمِ الأقربُ لقلبنا ، وهو يحاول مقاومةِ الوجع بعد السقوط أمام أعيننا .

كيف يُمكنني ألا أبكي وأنا أسمعه يقول لابنته "  اشتقتُ إليكِ ليتني الآن معكِ لكنّ لا تقلقي طلابي يحبونني ويحترموني " وهو الذي يصمت طويلاً في انتظار الطلبةِ أن يتوقفوا عن اللغو و الضحكِ الساخر على كلّ ما هبّ ودبّ ، كيف لنا أن نسخّر أنفسنا ونصبر و نصطبر على كلّ ما يمرّ علينا  ، إن الوجعَ أعمق ونحنُ نرى تفاصيل التفاصيل مكبرةً آلاف المرات و هي مخبئةِ بشكلٍ ما لألا تكون ظاهرةٍ فتوجع ، فأيُّ قلبٍ يكادُ يحتمل الألم موشوماً على كفيّه .

إنهم لا يُجبروننا على الاستماع إليهم لكنّنا نبقى هناك محدقين بعينينِ ناعستين تحاولُ مقاومة كلّ أساليب التشيت لندوّن كل كلمةِ خلفهم حتى لا نقتل مريضاً بينَ أيدينا ، إنهم يجبروننا بما يقولون أن نبقى مستمعين لآخرِ دقيقةٍ في المحاضرة ، ولآخر محاضرةٍ في المقرر ، إنهم يجبروننا أحياناً دون أن نشعر أن نسكب الماء من قارورته على ملابسنا في محاولة التوفيق بينَ الشربِ و الكتابةِ و التركيزِ في آنٍ واحد ، إننا مجبرون دون أن يرغمنا أحدٌ على فعلِ ذلك .

يُخبرنا ويقول لنا بكلّ ألمٍ أن العلاجَ معدوم ، أن على المريض أن يستعدّ للموتِ على كفنٍ من الوجعِ بعد حربٍ مع المرض ، و أننا على يقينٍ أن الأهل فيما بعد عليهم التعامل مع ذلك و تقبّل الرحيل في أوجعِ العُمر ، ويخبرنا أن السبب مجهول و كأنه بطريقةٍ ما يقول أننا فعلاً لا ندري ما قد يسبب المرض ، وحتى مع الأسباب الواردةِ امامنا فإننا لا نستطيع أن نُجزم أنها السبب .

ألا تعرف ما يحصل هوَ ما يُسقطكَ في متاهاتٍ من الحيرة لكن أن تعرف هُناك شيءٌ من الحزنِ يجعلكَ من تبلدٍ من الشعور ، أو شعورٌ أعمقُ من الحزنِ ذاته ، يمنعكَ من البكاء لكنّه لا يُضعفك ، بل يُظهركَ بقوةٍ من حديد ، أو أنكَ أصلبُ من الألماس ، بطريقةٍ ما أنتَ صلبٌ هش لا يمكن تمزيقكَ حتى ، أو أنه لا يُمكنك البكاء .

كيفَ رحلت جدتي وأيُّ ذاك الذي كان يحيطُ بدمها بشيء من الموتِ و كيف أنني في كلّ مرةٍ أتأمل بها تلكَ الخلايا أشعرُ بالسوءِ من موتِ جدتي دون أن أشعر بوجعها ، دون أن أبكي معها ، و دون أن أقاوم معها ، فأهرب في محاولةِ شربٍ الكثير من الماء و البقاءُ بالكثير من الصمت .

إننا ندفعُ كلّ يوم ثمنَ ذلك المعطف الأبيض ، ثمنَ الألمِ الذي ندري أنه هناك في أحدٍ دون أن نشعر به ، ثمن مقاومة المريض وحده ، و ثمنِ الطبطبةِ على البؤسِ بدعاءٍ عميق ، إننا ندفعُ ثمن أننا نعرف و نريدُ أن نعرف بالتمسكِ بالنور من ظلماتِ الحلم ، و إننا ندفعُ ثمن الشعور الأعظم الذي يُخالطنا ، أن الله العظيم خلقَ بعظمة ، سوى الإنسان و أحسن صورته و أخبرنا في كتابه " ولقد خلقنا الإنسان في أحسنِ تقويم " ، أخبرنا بكلّ التفاصيل لكننا بالكثير من الجهلِ وقليلٌ من المعرفة ، معرفةِ كلّ ما خلفَ المعطف الأبيض الذي ينادينا كلّ مرة : هيتَ لكَ أنكَ رغبتَ بي ، و أقول أنني أجبرتُ لأنني أحلم .

( اللهم اشفِ المسلمين و المسلمات ، وكلّ من توجعِ في الظلمات ، شفاءً لا يغادرُ سقماً )


-         شُكراً لمن ألهم .

هناك 8 تعليقات:

  1. اللهم امين .. فعلا تفطر القلب

    ردحذف
  2. اللهم آمين ... كلمات رائعة كروعة كاتبها 🌹

    ردحذف
  3. نُهى ♡
    ستظلينَ أنتِ ومعطفكِ الأبيض شيئًا نادرًا في هذه الحياة.
    لو أنَّ الجميعَ بفكركِ فقط!

    باركَ ربِّي في نسيجِ حرفكِ وزادكِ من فضله ♡
    شكرًا لأنكِ تكتبين.

    ردحذف
  4. نهى استمري.... ابداعك بلا حدود

    ردحذف
  5. كلماتك جميلة نُهى..

    ردحذف
  6. على كم الوجع المكنوز كله، تشاطرينني كمًا هائلًا من التفاصيل -قد لا تدركينه-.
    أنت تخفيف من الله لأوجاع الناس، ويا رب حلمي. :")

    ردحذف
  7. أنا لا أملُّ من إعادة القراءة والألم والاندهاش..

    ردحذف