الأربعاء، 16 ديسمبر 2020

حُلمي الذي كان - 2


جلستُ مُجهدةً أحملُ حقيبة ظهري، معطفي ومجموعةً من الأوراقِ في يدي على مكتبي، نظرتُ لرسماتِ الفيلِ أمام ناظريّ، خارطة فلسطين،رسمةُ صديقتي شهد المكتوب عليها لا حدود للأحلام، صورةُ أبي من تخرّجه، التقويم الأكاديمي للفصل، وورقتي البحثية التي نشرتها قبل سنتين، وجدول محاضراتٍ مهمل لم أزلهُ من مكانهِ منذ فصلين دراسيين، وكل شيء مبعثر على الطاولة، حتى احلامي. 

 

أنا مُجهدة، يُخيّل لي أحياناً أنني حمّلتُ نفسي فوق طاقتها بانتسابي للدراسات العليا بدوام جزئي، و دوامٍ كامل طوال الأسبوع لوظيفتي المُعتادة،أغمضتُ عيني أثناء القيادةِ قبل أيام وانتبهت أنني يجبُ أن أفتحها حتى لا أنام، أنا مُجهدة لكنّ حتى وإن ضاقَ بيّ التعب في أحلامي تتسعُ أكبر،جُهدتُ وأنا اقرأ عن مربع جوهاري، نظرية كولب و باندورا، أجيب على رسائلي البريدية و أحضرُ محاضراتي وأقدم محاضراتي و كل شيء يجعلني أرغُب بالذهابِ إلى المطار، ومثل الأفلام أذهب لمكتبٍ ما واطلب تذكرة باتجاهٍ واحد لأي وجهةٍ كانت، ومعي رفيق دربي و أغلق هاتفي وأسافر. 

 

يضيقُ بيّ كل شيء أحياناً، لكن يتسعُ كل شيء فجأة، لا زال أكبر أحلامي مؤجل بعجزٍ ماليّ ورغبةُ مدير، ولا أحد يذكرُ وجود حلمٍ مركونٍ فيالزاويةِ أبكيهِ على صوت حمود الخضر وهو يغني “يا هلا بالحلم” وكأنهُ آخر أحلامي المركونة في الزاوية، لستُ يائسة ولستُ تعيسة لكنالحياة الاجتماعية لا تناسبني تماماً وأنا طالِبة.

 إدنبرة.. مدينةٌ زرتها قبل أعوام ليومٍ واحد، رأيتُها ووقعتُ في غرامِ جمالها، فكنتُ أصِفُها لزميلي قبل زيارته وأقول: إنها تشبه المشي في أحد روايات شكسبير رُبما؟ لا أعلم. زرتها زيارة عابرة ومن ذلك اليوم أُخطط لتكرار الزيارة، ولكنها فجأة أصبحت مدينةً تحملُ حلمي الكبير، حلمٌأمارسهُ كل يوم بعد العمل وأنا طالبة، أحادثُ زملائي من كلّ العالم ونتفق أننا يوما ما سنلتقي. أين؟ في إدنبرة. المدينة الحالِمة التي يشاركناالمُعلمين فيها بصورٍ كل أسبوع وهم يصفون الطقس وأشعرُ بطريقةٍ ما أنني هُناك، لكنِّ هُنا، في هذه البقعة الجغرافية التي جعلت أحلامي القريبةُمني بعيدة، وكلما اقتربتُ ابتعدت. 

أنا لستُ حزينة،  أنا سعيدة وأشعرُ أنني أملكُ كل شيء ولكنّ ما قيمة الحلم إن كان سهلا؟ 

 

أنهيتُ قبل قليل أحد المحاضرات التي تجاوزتُ فيها تفكيري العميق: لم نتعلم؟ وفي الحقيقة أنني درستُ فلسفة التعلّم والتعليم خلال الفصلِالماضي بأكمله، ولكن لماذا؟ وأشعرُ بالأسف لكل أولئك الذين يبدؤون لكي ينتهوا، يحضرون المحاضرات ليسألوا سؤال واحد:  هل يدخل في الاختبار؟ الذين يقفون في المختبر طوالاً حتى يسألوا: متى ننتهي؟ الذين يتركون العالم كله لأجلِ درجات وبدون أن يستمتعوا بالرحلة يكونون كالآلات التي خُلقت لتنتهي، تبدأ لتنتهي، وما جمال الانتهاء إن كنتَ لا تحملُ من الرحلةِ شيئاً. 

 

خلال الفصل الماضي طلبت منا المُعلمة أن نكتب فلسفتنا في التعليم، وكنتُ أتساءل هل حقاً لديّ فلسفةً لذلك، قرأتُ عشرات الأوراق والكُتب لكيأحدد في خمسمائة كلمة ما وجهةُ نظري في التعليم، ولكنِّ لا أجدُ أنني فعلاً يمكنني أن أقول كل شيء، فالتعلم الذي بدأ من آدم ولن ينتهي ما دمناعلى هذه الأرض، فما إن توقفنا حتى وجدنا أنفسنا في عدادِ الأموات، فالتعلم الحقيقي هو أن تخوضَ في الشيء لا أن تستقي درجاتهُ كأن هدفكالأسمى من العيش هو الدرجات. 

 

عزيزي الذي يقرأ، كنتُ يوماً ولا زلتُ طالبةِ، قال لي أحد المعلمين الأفاضل أن الدرجات مجرد رقم، التعلم الحقيقيّ هو ما تكتسبه خلال هذهالرحلة، وقال أبي لي يوماً إننا في مراحلٍ نتعلم كيف نتعلم، ثم نتعلّم التعلّم الحقيقي حالما نصبحُ مستعدين لذلك، كلّ هذه الحكمةِ التي أُحيطت بيأثناء نشأتي أشعرتني أنني انظر لكلّ هذا بصورةٍ مختلفة، رُبما يشاركني البعضُ ولكنِّ أشفقُ على أولئك الذين يخوضون كل شيء فإذا هم فيخواء حتى بعد النهاية. 

 

اغمضُ عيني مراراً وتكراراً وأشعرُ أن كل شيء حولي يدور، وأشعرُ أحياناً أن البيت الريفي، المجهر ومُكعب التشريحِ امامي هو كل شيء، كلعالمي الصغير، وكلُّ أحلامي الكبيرة. حُلمي الذي كان يكبرُ في ويُزهر فيّ وأمارسهُ بشغفٍ كل يوم، هو ما يجعلني استيقظُ صباحاً أُغني طوال الطريق الطويل وأشربُ قهوتي وأمشي في الممرات أقول صباح الخير للجميع، بالمناسبة: أُحب كل الأيام التي أُصادفُ فيها طلابي وهم يقولون“صباح الخير مس” وأردُ عليهم بابتسامةٍ صباح النور. أُحبهم جميعاً وكأنهم بضعةٌ مني. أُهناكَ شخصٌ ما في العالمِ أكثر حظاً مني؟

 


الاثنين، 2 نوفمبر 2020

حُلمي الذي كان - 1

 

الساعة الواحدة وأربعة عشر دقيقة صباحاً. 

الرابع والعشرين من أكتوبر  -  يومُ الميلاد.

رفعتُ رأسي من امام الشاشة لأحرك عنقي يمنة ويسرة لاتجنب ألم الكتفِ الذي يعود مراراً وتكراراً بسبب المكوث امام الحاسوب لساعات طوال، إنها الواحدة صباحاً وأنا لا زلتُ امام جهازي منذ ساعات طويلة لأنهي استعدادي لمُحاضرة الأحدِ صباحا. يأخُذ مني التحضير ساعاتٍ طويلة مثلما كانت تأخذُ مني المذاكرة وغيرها. 

امسكتُ بهاتفي لأجد تهاني الميلاد التي وصلتني، خمس وعشرين خريفاً على هذه الأرض كم كبرت! وأشعرُ أنني كبرتُ أكثر لأتجاهل الأمرُ كليا واعود لجهازي اقرأ و اكتب وانقّح وأعيدُ التفكير في كل شيء أكثر من مرة لاختار السطرِ والعبارة المناسبة لوضعها في المحاضرة، الأمرُ مجهد لدرجةِ أنني اشكرُ معلميّ كلما تعبت، والأمرُ مرهق أضعافاً حينما يكون الطلبة خلف الشاشات، تتحدث لساعات دون أن ترى أن أحد أو أن تسمع أي صوت، أُجدد كرهي للعوائق الاجتماعية فلستُ من النوع الذي سوف اجبرهم على البقاء امام الكاميرا المفتوحة لأتحدث أنا وحدي. أريد غرس فيهم أن يشعروا بأهمية التعلم دون أن يُجبروا عليه أو يتلزمون لأنهم مُجبرون، فكلنا ندركُ أن التعلم أهم من هذا كله.

ما الجديد؟ لا شيء سوى أنني أشعرُ أنني كبرتُ أكثر، صرتُ انضج رُبما؟ أو ربما لا. لستُ متأكدة. أشعرُ أنني لم أعد دودة كتب كما كُنت فلم أنهي من مجموعة كتبي التي ابتعتها من معرض الكتاب سوى بضعة كتب، لكنِّ اقرأ أكثر في تخصصي ومجالي الذي يجعلني ابتعدتُ عن الأدب .. ومنها عن الكتابةِ أيضاً. 

 

الساعة الثالثة صباحاً. 

الأول من نوفمبر / ثم ماذا؟ 

.

أعجزُ عن النومِ من كل شيء يدورُ في رأسي، كل الأفكارُ تتضاربُ في رأسي وكأنها دوامةٌ من الغرق، أصبتُ فجأة بنوبة هلع، أشعرُ بحرارةٍ عالية، دموعي تنزل دون أن اتحكم بها، اغمضُ عيني وأُردد يا الله .. حتى نُمت، صحوتُ بعدها بساعات لا أعلمُ ما حدث لكنِّ شعرتُ باطمئنان وارتياح غير عادي، فجأة اجتاحتني طمئنةٌ بشأن أحلامي وأنا التي لم أكفُ عن القلقِ منذ يناير الماضي. كان كل شيء يبدو مثالياً أن التي اعتدتُ على تخطيط كل شيء مُنذ سنة الخامسة عشرة وكل شيء يُيُسر بطريقةٍ ما ويمضي حسب الخطة بلطفِ إلهي كان يلتحفني دائماً، أشعرُ أنها دعواتُ أُمي. الخطة، الأمرُ المزعج الذي بتُّ أعيش لأجلهِ، التي أوقفتُ كل شيء لأجلِ الخطة، الخطة التي أخذت مني الكثير وتأجلت كلها؟ كلهُ خير. أعلم حقاً ذلك لكن الأمرُ مربك وأنت تنتظرُ أحلاماً مؤجلة لستَ تدري إلى متى، وهل نعلمُ نحنُ أي شيء أصلا؟ 


الساعة الواحدة فجراً

الثاني من نوفمبر. 

ليالي السهر كثيرة، سهرتُ وأنا طالبة ادرس لأجلِ أحلامي، أحلامي التي رأيتُ أحدها في ذاكرتي وكتبت الحُب من النظرةِ الأولى، وأدركتُ حتماً أنه كان الحُب حينما أكدنّ لي صديقاتي بأنني كنتُ أكثر المتأكدين من مجالِ عملي، واعلمُ أنني كنتُ متأكدة منذ اللحظة الأولى التي امسكتُ فيها بين يدي دماغ، كبد، امعاء .. وكل تلكَ الأعضاء لأعيدُ تجهيزها لتجربةٍ كنتُ فيها طالبة اغمضُ عيني واستنشق الفورمالين الذي يثير الدموع بحُب، كنتُ ولا زلتُ أشعر أن ذاك الحُب بقيَ فيّ ما بقيت، بعدها بسنوات. مرّت ثلاثُ سنوات واليوم أقِف على نفسِ الطاولة، اُمسك بنفسِ الأشياء والأدوات، الفرق أنني محورُ الحديث وأنا المحاضر :" يا لروعةِ الشعور فعلاً. 

سهرتُ اليوم لأنجز بحثٍ دراسي مكون من آلاف الكلمات، البحثُ الذي عليّ تسليمهُ خلال أيام ولم أُنجز نصفه، ليس كسلا لكن الحياة ومشاغلها، المعلمةُ صباحا والطالبةُ ليلاً، وأشعرُ أنني لولا الدعم والدفء الذي يملؤني وكلُّ الحب ما نجوت، لكن الله وبطريقة ما يُسير لي الأمور دائماً، اغمضتُ عيني اقرأ مرارا وتكرارا فلسفتي في التعليم التي كتبتها قبل أيام لواجبٍ جامعي، وكل مرة اقرأهُ أشعر أنني نضجتُ بطريقة ما، أكثر من ذي قبل، لم أعُد تلك المراهقة التي تهرب من كتبها المدرسية لتكتب "خزعبلات" في مدونة لا يقرأها ولا يُلقي لها بالاً أحد، ولم أُعد أراقب عدد المشاهدات لأشعر بالحُب، أصبحتُ ربما لا اكتب أو أنني لا اهتم فعلاً سوى معرفتي أن أصدقاء هذه المدونة منذ البداية بخير. 

تراودني فكرة مشاركة أفكاري في التعلم والتعليم و كل يومياتي كمُحاضرة في سلسلةٍ تشبهُ الأمر كما كنتُ طالبة، لكنِّ أصبحتُ أخاف من ربطِ نفسي بالتزاماتٍ لا أقدرُ على الإتيان بها، ولكن من يعلم؟ رُبما لأفكاري التي لا أرويها لطلابي وهي في خاطري حتى آخر لحظة ثمّ انسحب هي التي يقرؤها غيرهم و تُلهمهم. من قال أني مُلهمة؟ قالها البعضُ وصدقت. لكن لا بأس ما دمتُ أشعر أنني ذا أثر. 

نهى تكتب: مذكرات اكاديمية ؟ هه شعرتُ بسخافة الأمر. 

حسناً عليّ أن انام. 




الأربعاء، 17 يونيو 2020

عدوي اللدود



جلستُ على مكتبي صباح اليوم وأنا أشعرُ بالحرِ الشديد لمجرّد المشي لخطواتٍ معدودة وبضعٌ وعشرون درجة من المواقفِ حتى مكتبي، وأشعرُ بالحرِ أكثر وأنا أشربُ قهوتي، جلست مسرعةً اخرجُ حاسوبي المتنقل، دفتر ملاحظتي، الموسوعة التي اقرأها، نزعتُ الساعة من يميني التي لا أعلمُ حقاً لم أرتديها و هي أول ما أزيلهُ عن رسغي فور جلوسي في المكتب، نظرتُ لصندوقِ شرائحي الزجاجية الذي ظل معي منذ ما يقارب أربعُ سنوات عندما كنتُ أدرس، المجهر الضخم على طاولتي الذي كان بعيد المنال، علبةُ أقلامي، مكعب روبيك الذي أعيدُ تشكيلهُ كل ساعة أو ساعتين، التحف المتواضعة على مكتبي من سفراتي القليلة، بيتٌ صغير لعائلة ايرلندية، مجسم لمجهرٍ من مشاركتي في مهرجان العلوم، الجامع الأزرق من إسطنبول، لوح البحر من جزيرة بالي، مكعب تشريح جسم الإنسان، هذه كنوزي الصغيرة التي كلما نظرتُ إليها ابتسمتُ فهي تعادلُ لي ألفُ ذكرى وذكرى، وصندوق افطاري، زحامُ الأسلاك خلف حاسوبي وحاسوب المكتب الذي أزعجني كثيراً لكن لا يمكن التخلصُ منه. 

امامُ ناظري ورقة كُتب عليها "أنتِ لستِ معلمتي فقط، أنتِ ملهمتي" من احدى طالباتي في يومِ المعلم، التقويم الأكاديمي، جداول المحاضرات وورقتي البحثية المتواضعة الوحيدة التي نُشرت قبل عامين، بطاقات المذاكرة التي وصلت لمكتبي من مجهول لكنِّ أُحبها جداً.

ومع كل هذه التفاصيل وهذا الضجيج، أقبعُ أنا في مكانٍ هادئ جداً، لا صوت سوى صوت حاسوبي، وحركةُ زميلي في المختبر، وكل شيء هادئ وساكن لا يُحركه أي شيء سوى قدوم أحدهم لإلقاء التحية، أتنفسُ بانزعاج بسببِ الكمامة التي جلبتها لنا الصينِ هذا العام. كورونا. عدونا اللدود. 

 وسطُ استشعار النعمِ التي فقدناها بسببِ عدونا المزعج، العائلة، أغلى كنزُ نملكه. مرّت أشهر طويلة على المرةِ الأخيرة التي حضنتُ فيها أمي التي كنتُ أراها بين فينةٍ وأخرى منذ مارس الماضي في مواقفِ المنزل، ومنذ مارس نفسه رأيتُ أبي مرةً واحدةً يتيمةٍ فقط قبل أسبوع، أي مرّت أشهرٌ طويلةٌ ثقال لم أرهُ فيها، فتحتُ باب منزلنا ذلك اليوم، ومع احترازات التباعدِ الاجتماعي، لكنِّ رأيتهُ وركضتُ إليهِ، رأيتهُ امامي و انسابتُ دموعي شلالات من الشوقِ والحزنِ والحُب والفقد، وسط صراخ الجميع "كورونا" ركضتُ إليهِ وألقيتُ بجسدي عليه، بكلِّ أحلامي وحبي وشغفي وشوقي، وبكيت، بكاءٌ مريرٌ طويل لا اسمعُ فيهِ سوى صوتُ بكائي الذي تقطّع من الشوقِ، ولا يمرُّ في ذهني سوى أبي الذي طال فراقنا طوال تلك الأشهر خوفاً عليهم أولاً، وخوفاً على أنفسنا، كيف افترقنا؟ لا أعلمُ فحتى زيارتي الأخيرةُ له قبل تلك المرة لا أذكرها، الشوق قطّع قلوبنا كثيرا. 

ابتعدتُ عن أبي وأنا امسحُ دموعي وشوقي، لا شيء عادل ذلك الشوق فطوال حياتي لم ابتعد عنهُ وأمي طوال تلكَ الفترة، أطول فراقٍ كان لمدة شهر أو شهر ونصف لظروف السفر، لكن أن تكون المسافة بيننا خمسُ دقائق ولا نرى بعضنا؟ هذا الشعورُ قاتل. 
عدوي اللدود، كم ستأخذُ منا بعد؟ كم سنبكي وكم ستنتظر حتى ترحل؟ لا أعلمُ الجواب ولا أنت تعلمه، لكن يبدو أنك تستمتعُ بالبكاء الذي يتكرر كلما فقدتُ احدى شخصيات مسلسلي أمها أو والدها، البكاء الذي يذكرني بالشوقِ ويبكيني وأنا التي لا أبكي على المسلسلاتِ أبداً.

عدوي اللدود،  كم عيداً ستأخُذ منا وتجعلُ كل التهاني هاتفية؟ كم صديقاً ستجعلني أفقدهُ أكثر؟ وكم حديثاً كان يجبُ أن يُدار فنتوقف إما بانقطاع الانترنت أو لسببٍ ما، لأننا لم نلتقي؟ كم مرةً يجبُ علينا أن نعقم كل شيء، أن تتشققُ أيدينا من المعقمات فنعيدُ ترطيبها بجالون من المرطبات حتى نعيدُ لها هيئتها؟ لكم من الأيام يكون خروجي للعملِ بالكمامة أهم من جهاز حاسوبي وكتبي وكل شيء؟ لكم من الأيامُ سوف نخافُ أكثر؟ ولا يكونُ الزكام العابر مرعباً؟ ولا السعال الذي يباغتنا فجأة لجفاف حلوقنا في وسط التسوق لا يصبحُ مرعباً؟ لكم من الأيام لا تستطيعُ فيها عائلتنا أن تجتمع؟ ألا أرى أعمامي وعماتي وحنان وكل الأحبة؟ لكم من الأيام سنشعرُ أن كل شيء مؤجل بسببك؟ 

عدوي اللدود، شكراً على درس استشعار النعم بالطريقةِ القاسية التي طرحت، شكراً على تضييق حياتنا وخنقنا، وتقييد حركتنا ومنعنا من الأحضان من الأحبة. عموم القول إننا نكرهك، فهلا رحلت؟ 

التدوينة للذكرى ـ فبعضُ الأعداء يخلدهم التاريخ.

الأحد، 17 مايو 2020

لا جديد سوى كل شيء!



الساعة السابعة صباحاً، لم أنم طوال الليلِ لسببٍ أو سببين مجهولين، إنها المرة الأولى في حياتي التي أطيل السهر في رمضانِ ويتغير جدول نومي كلياً، كنتُ دائماً الشخص الذي حين يتواجد في مكان الدراسة صباح رمضان أكون بكامل طاقتي، لأنني باختصار لا أجيد السهر فيه. ولأنه رُبما إنها المرة الأولى في حياتي التي تمر عليّ أيام رمضان بدون دراسةٍ أو عمل. 
عمل؟  هه لقد كبرت، تلكَ الفتاة التي تهرب من بينِ كتبِ المدرسة لتدوّن "خرابيطها" لم تعد موجودة، كم مرة على ذلك؟ سبع أو ستِ سنوات؟ لا أعلم توقفتُ عن العدِ وربما لأنني أريد أن أدوّن الآن لا أعد السنوات. غمرني هذا الشعور فجأة، مرت أشهرٍ طويلة قبل أن يغمرني مثله منذ فترةٍ طويلة، أعدتُ فتح مدونتي رأيتُ أنها لم تهجر، هناك أرقامٌ متواضعة تتصاعد بين فينةٍ وأخرى "شكراً للأوفياء، واعتذر منكم مجددا". 

ماذا حدث؟ كيف تغيّرت! أعاودُ التفكير مرةٍ أخرى عن تلك المرة التي دوّنتُ فيها هُنا عن المريولِ المدرسي الأزرق الذي رافقني ستُّ سنواتٍ في المدرسة، ثم دونتُ عن أيام دراسةٍ اللغة في الكليةٍ قليلاً، وتحدثتُ مطولاً عن معطفي الأبيض خلال أربعٍ سنوات في الكلية، تحدثتُ كثيراً عن الأحلام والشغف، معلميّ وكل طبيبٍ مرّ عليّ وألهمني، تحدثتُ مطولاً عنهم حتى غادرتُهم، تحدثتُ كثيراً كيف ألهموني في السنةٍ الأخيرةٍ من الدراسة، كيف أوقدوا تلك الشعلةُ داخلي، شعلة الحُب الذي لا ينقطع. كلّ ذلك الشغفِ والحُب هو الذي أعادني مرةٍ أخرى، أعادني وأحيياني وعجنني بطريقةٍ مُختلفة، كنتُ أجلس في ذاتِ الكراسي لساعاتٍ طويلة تكادُ عيناي لا ترمشُ حتى لا أتوهُ في المحاضرة وأنا انظر للمدرس، اليوم أنا مكانه يا للهول!! أقفُ اليوم هناك وأنا أعيدُ ما لُقنتِ وتعلمت ودرست وبعد النصائح والأحلام الطويلةِ، أنا اليوم مدرسة! عدتُ لكليتي مرةٍ أخرى، في ابريل الماضي.. مشيتُ مرة أخرى بعدما انتهى كل شيء في حفلِ التخرج في فبراير حينما قال لي معلمي "مُبارك، وأهلا بكِ مجدداً" ابتسمتُ ابتسامةٍ عريضة وصديقتي تنظرُ إليّ وتقول يا حظك! حظ؟ إنهُ جهدُ وتعبُ السنين يا صديقة، إنه عن كل المرات التي تعبتُ فيها ولم أتوقف! عن كل المراتِ التي سعيتُ وتعبتُ وبكيت ثم عدتُ أقوى وأجلّ! عن كل المرات التي تدركينها وأدركها، كلانا عشناها معاً بطريقةٍ مختلفة. 

حسناً نعودُ لأبريل الماضي، كانت عيوني شبه نائمة، كنتُ بكل حماسي ولكن كنتُ سأنام على أقرب طاولة أو كرسي أو شجرة أو أي شيء، كانت عودتي من سفرٍ لمدة شهرين بعد فارق توقيت ثلاث ساعات قبل ذلك الصباح بيومين! فالاستيقاظ ذلك الصباح كان مرهقاً جداً ـ عموماً ـ ذهبتُ للمواردِ البشرية لأول مرة في حياتي تخطو قدماي قسمٌ مثل ذلك، طرقتُ باب القسمِ مرتين ثم تنفستُ الصعداء ودخلت "لا أعلمُ حتماً إن كان ينبغي أن أطرق الباب أم لا" لم أرَ أحدا في المكان سوى عامل القهوة، سألني ماذا أشرب وأخبرني عن وقتِ بدء توافد الموظفين وهو على بعد نصفِ ساعة، قلتُ لا بأس سأنتظر فلو عدتُ لسيارتي سأنام حتماً طوال اليوم. 

لم يطل انتظاري حتى وصلت أول موظفة "السلام عليكم، أنا اسمي نهى، موظفة جديدة في قسمِ المختبرات، سأباشر عملي اليوم" لم تكن تعلم ما تفعل فوجهي لم يكن وجه موظفة أو اكاديمية حتى قالت "شكلك طفلة!" عموماً هنأتني وانتظرت ساعات حتى حُلّ الأمر.. أمسكتُ بالورقة "إقرار استلام عمل" وقّعت وطلب مني التوجه لرئيس القسم لطلبِ توقيعه! هنا زاد حماسي فهو معلمي ومُرشدي وهو من اختارني لهذه الوظيفة وذهبتُ إليه مسرعة لن أزعجكم بالتفاصيل الطويلة فقد مرّ ما يزيدُ عن السنة يُحال أن اختصر ذلك في تدوينة. 

لأعيد الذكرى عن كلّ المرات التي قدمني معلميّ فيها بـ" نُهى، كانت طالبة وحالياً زميلتنا" بعيونٍ يملأها الفخر، عن حماسهم و عن حماسي وشغفي، عن المراتٍ التي شربتُ فيها القهوةِ معهم وحادثوني، عن كل شيء قد تغيّر، كنتُ في موضعِ الطالب وأصبحتُ المعلم! حتماً كل شيء، كل شيء حرفياً تغيّر. كنتُ أقولُ سأدون هنا ما يحدث مع طلابي، ولكنّ أتوقف عن الكتابة في كل مرة لسببٍ أو لآخر، أُحب طلابي لكن لا أريد أن يقرئوني هنا، فلا أدري إن كانوا سيفعلون، لكنّ أحبهم كثيراً، أحبهم للحدّ الذي أتمنى أن أعلمهم بالحبِ والشغف التي سقيتُ منه أثناء دراستي، أن أكون من يشعل في صدرهم حُب التخصص والإلهام، أن أكون لهم كما كانوا معلميّ لي. 

مرّ الكثير صح؟ طبعاً العام الماضي كان مختلفاً كلياً في حياتي، سفرٌ طويل لوحدي، عمل جديد ووظيفة أحلامي، الزواج من رفيق العمر، السفر مرةً أخرى، اسمي في خططِ المواد، قائمة طلاب ينبغي أن أكون مرشدتهم الأكاديمية "يا إلهي!!! " كل شيء تغيّر لم أعد الشخص نفسهُ أبداً، لم أعد كما كنتُ لكنّ كل شيء هُنا غيرني وكونني، كانت شعلةُ الكتابة وستبقى، لكنِّ لا أعلمُ فعلاً متى ستكون. 

أصدقائي الأوفياء الذين يقرأون هنا حاليا، أُحبكم، كونوا بخير وأخبروني أنكم كذلك وعيشوا بشغف. 
كونوا آمنين!