الأحد، 18 أغسطس 2019

وآمِن لنا خوفنا


كانت الشمسُ حارقةً تلك الظهيرة، لكنْ قلوبنا تقفزُ فرحاً بقدومِ الحفيدة الخامسة، كانت السعادة هي ما يبردُ على قلوبنا، كانت اللهفة للقائها ثانيةً هي كل ما نفكرُ به فلم يمرُّ على ولادتِها سواء يوم ونصف!

كنّا نتسارع اللحظات للاستعداد للذهاب، لكن أذان الظهر باغتنا فطلب مني أبي توصيله إلى المسجدِ حتى لا تفوتهُ الصلاة ثمّ نتوّجه وكل فرحنا الذي لا تسعهُ الأرض إلى منزلِ أختي. تذكرتُ فور نزولِ أبي من السيارة أنني نسيتُ شيئاً في المنزل طلبت مني أمي احضاره، فقررتُ الرجوعَ مرةً أخرى لإحضاره سريعاً قبل أن يُنهي أبي صلاته، فالمنزل لا يبعدُ عن المسجد أكثر من نصفِ كيلو متر، فلا بأس إن ذهبت.

أنا لوحدي في الأمام، أخواتي في الخلف فلا داعي للخروجِ فالشمس لتغيير المقاعد مع تلكَ المسافة القصيرة جداً – اشكرُ الشمس على وجودِها وعدم قدوم أحد أخواتي للأمام – أخذتُ حاجياتي وعدتُ إلى المسجدِ مسرعة، لكي لا يَسبقني أبي. وكنتُ أتحدّث و أقود في سرعة لا تزيد عن 80 كيلومتر كما أتذكر! لكنِّ باستهتار لم أدرك أنني في وسطِ الحارة! حتى رأيتُ السيارة قادمة من اليمينِ فتحتُ عيناي على وسعها وحاولت الضغط على الفرامل! لكنْ كل شيء كان سريعاً دارت بي سيارتي الصغيرة جداً، أغمضتُ عيني وسمعتُ صراخ أختي. لم أغمضها أكثر من ثواني لكنِّ فتحتها والأكياس الهوائية تحميني من كل شيء.

 سمعتُ صراخَ أختي "اخرجن بسرعة!" . فتحتُ باب سيارتي أتثاقل الخطى فألمُ الحرارةِ يخنقني وألمُ ما حدث يخنقني أضعافاً. أتساءلُ عمّا حدث بعدها، التفاصيل تؤرقني، كان اليوم الأكثرُ رعبا في حياتي، قفازي تملؤه الدماء من أنفي، أشعرُ أن رأسي يدور و الشمسُ لا ترحم، أسمعُ بكاء أخواتي ولا أرائهن، أرى الرجلَ الواقف أمامي يحادث الشرطة ويسألني في نفسِ الوقت بمن اتصل، لكنِّ ارتجفُ كُلي مما حدث، فالخوفُ يتملكني بأنا السبب!

ثوانٍ معدودة ونظري مشوشٌ أرغبُ أن أنام وأصحو لأرى كل هذا لم يحدث! أرى الدم من أنفي وأفكرُ في عمليةِ أنفي! لم يمضِ عليها عام هل يعقل أن العملية ستفشل!! كل شيء يدورُ بي وأنا أتمتم "بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ وهو السميعُ عليم" قلبي يتمتمها والأرض تدورُ بي، أنا دائماً أوقنُ بأنها ستحميني من كل شيء، فكنتُ أرردها بداخلي وأبكي محاولةً شرحي للرجلِ الغريب أن أبي يبعدُ أمتارٍ قليلة في المسجدِ، لم أشعرُ إلا بالأرضِ تحرقني وتلسعني ورأسي ثقيل! كل شيء مشوشٌ فتحتُ عيني تحت الظلِّ واستجمعتُ قواي اسأل عن هاتفي لأُبلغ أمي أننا تعرضنا لحادث! لكنّ أختي نهتني لألا نُقلقها فالحمدُللهِ آلامنا بسيطة وكلنا بخير، اتصلتُ بزوجي ليهبَّ بالمساعدة، وصل أبي ليحتضنني وأخواتي وسط رجفةِ خوفنا والبكاء، كنتُ أبكي وأكررُ اعتذاري بأنا السبب! وهو يقولُ لا بأس المهم أن جميعكم بخير. لكنِّ لم أرَ أحد أخواتي! إنها ليست هُنا، سألتُ عنها فقالوا أنها بداخل منزلِ أحد الجيران. الجيران الذين اشرعوا أبوابهم لنا، سعفونا بالماءِ والتكييف الباردِ الذي كان مسحة لقلوبنا الخائفة! التفاصيل مشوشةٌ كلها، اذكرُ وصول الإسعاف و صعودي إليها – رغم أن أحد أحلامي رؤيتها من الداخل- لكنِّ كرهتُ نفسي لذلك الحلمِ الغبيّ! فهيَ ليست مشوقة أبداً ما دمتُ فيها بقلقٍ وخوف، لا أعلمُ ما حلَّ بيدي فهي تزدادُ تورُّماً كل دقيقة وأختي تنزفُ أمامي!

وصلنا للمشفى، ساعاتٍ طويلة من الانتظارِ على سريرٍ أبيض والقلقُ على أختي في الغرفةِ الأخرى يقتلني، أريد الاطمئنانُ عليها لكنّ لا طاقة لي بالوقوف، ومسندُ الرقبةِ يزعجني فرقبتي بخير! لكنْ المسعف أمرني بإبقاءه فلا يتم التأكد حتى القيامِ بكلِّ الأشعات. مرّت الساعات الخمس في المشفى طويلة، بدأت كأنها دهراً، استجمعتً طاقتي بعد الساعةِ الثانية لاطمئن على أختي، حضنتها وبكينا معاً، بكينا خوفنا وقلقنا وألمنا معا، بكيتُ ألمها الذي يضاعفُ ألمي أكثر، بكيتُ أنني من كنتُ أقودُ السيارة أكثر وأكثر.

"الحمدُللهِ تستطيعون الذهاب الآن" قولُ الطبيب تلكَ كانت أكبر سعادة في ذلك اليوم المُخيف. خفتُ كثيراً. كثيراَ للدرجةِ التي لم استطع تخطي تلكَ الظهيرةُ بسهولة، كل شيء أصبحَ بخير، نسينا آلامنا و كلُّ ما حدث، نسيتُ سيارتي التي لم أرها بعد ذلك اليومِ لكنِّ لم أنسَ خوفي وقلقي. اليومُ الأكثر خوفاً في حياتي لم يمرَّ هكذا. لا زلتُ أقلقُ عند قيادتي للسيارةِ و يدخلُ أحدٌ فجأةً أمامي، تعادُ تلك الظهيرةُ كلها أمام ناظري وأقلق. لا زلتُ أخاف رغم مرورِ عامٌ وشهر على ذلك الحادثِ، خرجنا بخير والحمدُللهِ ولكنَّ الخوف في صدري.

كتبتُ قبل أيام أن الخوف يتبددُ ما إن نعبرُ عنه، لذلك كتبت. ربما تتبددُ كل هذهِ المخاوف من قلقٍ بعد التعبير عما حدث، و آمِن لنا خوفنا يا الله. أنا بخير. فعلاً!

الأحد، 4 أغسطس 2019

إلى: غادة.





أعلمُ الآن أنكِ لن تقرأي هذهِ الرسالة، و أظنُّ أنكِ لن تقرأيها أبدا. مرّت أشهر على أخرِ مرةٍ كنتِ فيها بين أحضاني، و أيامٌ طويلةٌ على آخر مرةٍ حادثتكِ فيها، تمرُّ الأيام دون أن نشعر أحياناً لكن يمزّقنا الشوق أحياناً كثيرة.

أتعلمين غادة، أفتقدكِ دائماً كما لو أنني أفتقدُ ابنتي، فكما تعلمين أن الخالة أمٌ ثانية، وإن ابنة الأختُ ابنتنا جميعاً، اذكرُ يا غادة كل الأيامِ التي تأتين إليّ باكية بدلالٍ واضح تطلبين مني الذهاب إلى الدكان، أو قطعةُ حلوى أو مشاهدة اليوتيوب "ناروّ" على هاتفي، تبكين وتصرخين بدلالٍ نعرفهُ جميعا، لكنِّ لا أرفضُ لكِ طلبا! انظرُ دائما لطاولة مذاكرتي واتذكركِ وأنتِ تعبثين بأقلامي وأوراقي بشغبٍ طفوليّ وأغضبُ منكِ وأصرخ، لكنِّ أحببتُ كل الأيام التي جلستِ فيها فوقي وانا اقرأ وانتِ تعبثين هنا وهناك.

أحبكِ حين تأتين إليّ راكضةِ تطلبين شيء، وأحبكِ ألف مرّة كلما فتحتُ ذراعي وتهرعين لحضني وتضحكين، أحبُّ ضحكتكِ كثيراً لو تعلمين يا غادة، أّحب كل الأيامِ التي بقينا فيها ساهرين ليلاً في غربتكِ تطلبين مني وعدكِ أنني لن أترككِ تنامين وحدكِ، لكنِّ تركتكِ.

أتدرين يا غادة، أحبُّ أنكِ كلما تنامين بجانبي تمسكين يدي وتقولي  "تصبحين على خير، أحبكِ" وتنامي، ثم يتبعُّ وداعكِ ضحكات كلما قلتُ لكِ نامي، إنكِ مشاكسة، ومدللة، لكنّ دلالكِ يا حبيبة فؤادي قرّة لعيوننا.

أدركتُ أن الخالة أمٌ ثانية في المرةِ الأولى التي أتيتُ لحضانتكِ وهرعتِ إلى حضني فرحاً، تودعيهم بسرعة حتى أنكِ تنسين حقيبتك وحذائك، ذلك الحضنُ كان يساوي الكون كله، اذكرُ أنني قلتُ في تلك الليلةِ أني أريد أن أصبح أماً لأجلِ هذه اللحظة، حين يحتضنني الكونَ كله بين ذراعي طفلة!

أتعلمين يا غادة .. كل مقطع فيديو يُبعثُ منكِ إلينا أسمعه يترددُ في المنزلِ ألف مرة، من كل هاتفٍ في المنزل مكررٌ مرات ومرات كثيرة لكنّ لا أحد يتحدث. إنهُ الشوق يا غادة!


أعلمُ أنكِ لا تقرأين، ولن تقرأين لكن يغالبنا الشوق فنكتب حتى يطمئن الفؤاد.

خالتكِ تحبكِ جداً.