لقد غيّرت الكتابة مجرى حياتي كُليّاً ، غيّرت كلّ خليةٍ مني جذرياً ، أعادت ترتيبِ حياتي ، و غيّرت مواقع كروموسوماتي حتى تُصبح مختلفة بشكلٍ لا يُكتب ، لم أهدف إلى الشهرةِ أو أيُّ مَكسب ، لكنِّ أريدُ أن أحيا حرفياً .
طقوسُ الكتابةِ تمرُّ عليّ أشبهُ بغيمٍ يتجمعُ فوقَ صحراء قاحِلة من الشّعورِ لتُمطر ، ثمّ تتذكر أن هذه صحراء لا حياةَ فيها فيتوقف الغيمِ ليحفظ ما تبقى من زهرٍ لحياةٍ أخرى ، أشبهُ بمرحلةِ البقاء في تابوت لساعات في خوفٍ و خشية لأننا متنا دون أن نفعل شيئاً يُذكر في حَياتنا ، ثمّ نستيقظُ فجأة ليس من كابوسٍ عنيف و إنما في قبرٍ مُخيف لأن الأطباء لم يقدّروا احتماليةِ انخفاض دقات القلب للمستوى الذي لا يُشعرُ بها ، و إنها أشبهُ بالأرض التي تدور حول الشمس دون أن تتأمل مسارها كما نفعلُ نحنُ البشر حين نمشي على صفائحٍ متتاليةٍ من الرخام في مسارٍ طول محاولين تجنّب حدود الصفائح .
إنها أشبه بمضادات تجلّط المَشاعر حتى لا تُسبب تخثراً في الدمِ يؤدي إلى انتفاضةِ مناعةِ الجسم مثيرةً فينا الكثيرُ من الريبةِ و الشكّ ، إنها تدفعنا لأن نقوم بالتأكد من مستوى الهيموجلوبين في الدمِ للتأكد أنها لم تقم بإبادةِ خلايانا الحمراء في سبيلها ، إن هذهِ الطُقوس لن يصفها أي مصطلح طبي مهما حاولت أن أبحث بين كلّ الكتب و كلّ ملاحظات المُحاضرات ، إنها طقوس لا تشبهُ أي طقس ، و لا تشبهُ حتى مور أخدودٍ جويّ قد نزهرُ بعدهُ ألف عام ، في الحقيقةِ إني أبالغُ قليلاً بالوصفِ لأنهُ و كما أسلفتُ سابقاً أن هذا الطقس بالتحديد لا يُوصف .
الكروموسوم الرابع عشر في الموقعِ الرابع و الثلاثون ، الكروموسوم الخاص بأولئك الذين لا يَرون الحياةِ إلا مُلهمة فيتأملون حركةِ النمل وسط قطيعٍ من البقرِ بعد مشاهدةِ ولادةٍ عسيرة لقطةٍ بيضاء شيرازيّة ، لأولئك الذين يتوهّجون في العالم فرحاً ، ويضحكون حتى يقعون على الأرض ضحكاً من مقطعِ فيديو لحلزونةٍ تحاولُ شربَ الماء ، ثمّ يمشون بطريقةٍ مدروسةٍ مُبرمجة كتحرّك الألبومين حاملين كتبهم لتحضر المحاضرةِ دونهم ، بينما هم يتشاركون مقطع الفيديو مع أصدقائهم و يستمرون في الضكِ الهستيري بوِحدة ، ثمّ يأتون و ينتقدوا المَجانين وكأنهم ليسوا منهم .
الكتابةِ صفة وراثية على مُكتسبة ، إنها تنتقلُ عبر الأجيال تكون إما حاملاً لها أو مُصاباً بها ، إنها تنتقل وتوّرث بمثلِ الوراثةِ المندلية ، إنها قد تكون جيناً صامتاً أو قائداً ، إما تقودك أو تموت بداخلك ، إنها تنتقلُ إلى أبنائك و عبر جيناتك إلى أحفادك ، إنها تُحمل من جيل إلى جيل في كروموسوم مُخلّد لا يموت .
كنتُ قررتُ أن ابدأ بالكتابةِ ألا أذكر الكتابة أن اكتب عن الأحلام و الشغف أو عن المعاطف البيضاء أو الطبّ و ربما الطبخ لكن لا أذكر الكتابة كلياً ، لكنها تستمرُّ بتغيير مجرى حياتي ، تستمرُ بإلغاءِ الخطط الدقيقةِ التي لا ألتزمُ بها بتاتاً ، إنها تدفعني لتحديدِ هدفٍ واحد ثمّ إنها لا تهتم بالتفاصيل الدقيقة المعتّقة التي لا يُلقي لها بالاً أحد ، إنها تُحددُ هدفي بالكتابةِ و تُلغي كلّ ما أردتُ كتابته ، إنها تنتظرني أن أقرر وهيَ من تأتي بربةِ الإلهام ثمّ تكتب ، إنها تكتبُ بي وتستخدمني كما يستولي الجانُ على جسدِ أحد ، إنها تدفعني لتكذيب قانون الجذب لأنها لا تُجذب ، بل تَبقى مخبئةً حتى تظهر في تفاعلٍ أثناء انخفاض درجةِ الحرارةِ إلى 4 سيليزية ، كالجسيمات المضادة الباردة تظهر ثمّ تختفي بنفسها مع ازدياد درجةِ الحرارة ، تدفعُ المشاعر كلها لتجتمد حتى تستفيق ثمّ تتلاشى وحدها .
آخ ، لقد تجاوزني الحرف هذه المرةِ أيضاً .
نصفُ مشاكلي في الكتابةِ أني لا اكتب كما أردت ، النصفُ الآخر أنني عندما أريدُ أن أكتب لا يشبهُ النتاج كلّ ما أردتُ كتابته ، إن الأمر ليسَ متعلقاً بكلّ الحروف التي أكتبها ، الأمرمتعلق تحديداً بالإبتسامةِ المُرتسمة على شفتيّ حينما أنقر الزّر ( نشر ) .
أنا في العالم الموازي خشبةً مرميةً في عرضِ البحر ، تتقلّب بيَ الأمواج يمنةً ويسرة حتى استقرُّ في جزيرةٍ مهجورة ، ما إن أشعر بالراحةِ من تقلّب الأمواج حتى تمتدُّ إلى يدِ بشريّ فيحرقني ليتدفأ ، و تتقاذفني الريح حتى أختفي .
حُلمي حالياً أن أعمل في مركزِ أبحاثٍ طبيّ ، اكتشف علاجاً لمرضٍ مناعيّ كان مرضاه قد يأسوا حتى يتوّهج الأمل في قلوبهم ، ثمّ أفوزُ بجائزةِ نوبل بعدها بأعوام و ألقي كَلمتي أمام جمهرةِ العُلماء ، ثمّ يصفّق الجميعُ بحرارة و أردى دموعَ أبي فرحا و فخرا ، و يحتضنني و أقبّله حتى يختلط دمعي بدمعهِ فرحا ، و أن اكتب رواية تكون إرثاً لأبنائي ، أشبهُ بتميمةٍ تحميهم من وجعِ الحياةِ ، لأنا أقتفي أثر لا أحد لأكون الأحد الذي يَقتفي من بعدهِ الآخرون بهِ .
أريد أن يحملني العالم غيمةً تتقلّبُ فيه ، و أن أهاجر دون أيُّ فِلس ، أن أمشي في الريفِ السويسريّ و أبقى في كوخٍ خشبيّ كنزي حينها عائلتي ومدونتي ، أن اكتب الكثير من الرسائل الورقية للعابرين الذين لن أقابلهم مرةً أخرى ، أن أحمل كلّ من أحبهُ على عاتقي و أعيشُ معهم في الجنّةِ أماناً أبدياً .
التاسعُ عشر من أبريل : مدونتي تكملُ عامها الثالث ، شُكراً لمن ألهم ، شكراً للمعلمِ الأول أبي ، والذين مروا على خاطري وأنا أكتب " حبيب الفؤاد ، شَغف ، رواء ، هَديل ، شَذى و مؤشرات " ، وشكراً إن كنتَ تقرأ هُنا .
امسحوا الدمعَ الحزين ، دعوا أحلامكم تنتفس .
18\4\2016 م
11:09 مَ