قالت لي : أنا لا أجبر أحداً
للاستماع إليّ ، إن كان يريد فله ذلك و إن كان لا فهوَ حُر .
أمام ناظريّ شيءٌ من الدهشة و أنا أسأل لنفسي كيف لنا ألا نسمع ، كيف
للبعضِ وبكلّ وقاحةٍ أن يخرّج هاتفه و الطبيب أمامه يتحدث عن حياةِ شخصٍ كان على
وشكِ الموت ، أو أنه يحاول الآن تقبّل فكرة الرحيل ، وأن أهله يكفكفونَ دموعهم في
الخفاءِ متظاهرينَ بشيءٍ من القوّة ، علّه يتمسك بشيءٍ من الأمل .
كيف لنا أن نتجاهل ملامح الإندهاش في وجوهنا و نحنُ نقوم بعدِّ مئات
الخلايا التي في غير موقعها لأن صاحبها في المرحلةِ الأخيرة من اللوكيميا ( سرطان
الدم ) ، كيفَ لقلوبنا أن تتحمل تلكَ التشوّهات و ذاك الكمّ الهائل من الوجعِ أمام
ناظرينا ، وكيف لنا و بكلِّ غباءٍ أن نغشّ في محاولةِ غسل خلايا الدمِ الحمراء و
لا ندري أن مريضٍ سيموتُ جراء هذا الفعل من محاولة تجاهل شرح المسؤولة عن المختبر
، وكيف لا نفكر أننا قد يكون بين يدينا دمِ الأقربُ لقلبنا ، وهو يحاول مقاومةِ
الوجع بعد السقوط أمام أعيننا .
كيف يُمكنني ألا أبكي وأنا أسمعه يقول لابنته " اشتقتُ إليكِ ليتني الآن معكِ لكنّ لا تقلقي
طلابي يحبونني ويحترموني " وهو الذي يصمت طويلاً في انتظار الطلبةِ أن
يتوقفوا عن اللغو و الضحكِ الساخر على كلّ ما هبّ ودبّ ، كيف لنا أن نسخّر أنفسنا
ونصبر و نصطبر على كلّ ما يمرّ علينا ، إن
الوجعَ أعمق ونحنُ نرى تفاصيل التفاصيل مكبرةً آلاف المرات و هي مخبئةِ بشكلٍ ما
لألا تكون ظاهرةٍ فتوجع ، فأيُّ قلبٍ يكادُ يحتمل الألم موشوماً على كفيّه .
إنهم لا يُجبروننا على الاستماع إليهم لكنّنا نبقى هناك محدقين بعينينِ
ناعستين تحاولُ مقاومة كلّ أساليب التشيت لندوّن كل كلمةِ خلفهم حتى لا نقتل
مريضاً بينَ أيدينا ، إنهم يجبروننا بما يقولون أن نبقى مستمعين لآخرِ دقيقةٍ في
المحاضرة ، ولآخر محاضرةٍ في المقرر ، إنهم يجبروننا أحياناً دون أن نشعر أن نسكب
الماء من قارورته على ملابسنا في محاولة التوفيق بينَ الشربِ و الكتابةِ و التركيزِ
في آنٍ واحد ، إننا مجبرون دون أن يرغمنا أحدٌ على فعلِ ذلك .
يُخبرنا ويقول لنا بكلّ ألمٍ أن العلاجَ معدوم ، أن على المريض أن يستعدّ
للموتِ على كفنٍ من الوجعِ بعد حربٍ مع المرض ، و أننا على يقينٍ أن الأهل فيما
بعد عليهم التعامل مع ذلك و تقبّل الرحيل في أوجعِ العُمر ، ويخبرنا أن السبب
مجهول و كأنه بطريقةٍ ما يقول أننا فعلاً لا ندري ما قد يسبب المرض ، وحتى مع
الأسباب الواردةِ امامنا فإننا لا نستطيع أن نُجزم أنها السبب .
ألا تعرف ما يحصل هوَ ما يُسقطكَ في متاهاتٍ من الحيرة لكن أن تعرف هُناك
شيءٌ من الحزنِ يجعلكَ من تبلدٍ من الشعور ، أو شعورٌ أعمقُ من الحزنِ ذاته ،
يمنعكَ من البكاء لكنّه لا يُضعفك ، بل يُظهركَ بقوةٍ من حديد ، أو أنكَ أصلبُ من
الألماس ، بطريقةٍ ما أنتَ صلبٌ هش لا يمكن تمزيقكَ حتى ، أو أنه لا يُمكنك البكاء
.
كيفَ رحلت جدتي وأيُّ ذاك الذي كان يحيطُ بدمها بشيء من الموتِ و كيف أنني
في كلّ مرةٍ أتأمل بها تلكَ الخلايا أشعرُ بالسوءِ من موتِ جدتي دون أن أشعر
بوجعها ، دون أن أبكي معها ، و دون أن أقاوم معها ، فأهرب في محاولةِ شربٍ الكثير
من الماء و البقاءُ بالكثير من الصمت .
إننا ندفعُ كلّ يوم ثمنَ ذلك المعطف الأبيض ، ثمنَ الألمِ الذي ندري أنه
هناك في أحدٍ دون أن نشعر به ، ثمن مقاومة المريض وحده ، و ثمنِ الطبطبةِ على
البؤسِ بدعاءٍ عميق ، إننا ندفعُ ثمن أننا نعرف و نريدُ أن نعرف بالتمسكِ بالنور
من ظلماتِ الحلم ، و إننا ندفعُ ثمن الشعور الأعظم الذي يُخالطنا ، أن الله العظيم
خلقَ بعظمة ، سوى الإنسان و أحسن صورته و أخبرنا في كتابه " ولقد خلقنا
الإنسان في أحسنِ تقويم " ، أخبرنا بكلّ التفاصيل لكننا بالكثير من الجهلِ
وقليلٌ من المعرفة ، معرفةِ كلّ ما خلفَ المعطف الأبيض الذي ينادينا كلّ مرة :
هيتَ لكَ أنكَ رغبتَ بي ، و أقول أنني أجبرتُ لأنني أحلم .
( اللهم اشفِ المسلمين و المسلمات ، وكلّ من توجعِ في الظلمات ،
شفاءً لا يغادرُ سقماً )
-
شُكراً لمن ألهم .