يقولُ لنا طبيب علم أمراض الدم أنه كان منتدباً في أحد المستشفيات ، وفي
أحد أيام العطلةِ الرسميّة كان عدد فنيّ المختبر قليل في قسم أمراض الدم و كان
هُناك الكثير من العينات فالمرضُ لا يعرف وقتاً محدداً ليزور الناس ، ما يُهمّ أنه
اختار هو العمل على جهاز بسيط يتطلّب امساك عينة اسفلَ قطعةٍ من الجهاز لتسحب
شيئاً من العينة ثم ترتفع تلك القطعة و بعد ثلاثون ثانية تظهر أن النتائج قد تمّت
وعليهِ طباعتها .
يقول ما إن أمسكتُ العينة الأولى حتى أتت فتاة أميّة لا تجيد القراءة ولا
الكتابة ، لا تجيد حتى كتابة اسمها وظيفتها التي تعمل بها من ثلاث سنوات أن تقوم
بتنظيف المُختبر ، أتت إليهِ الفتاة وقالت " أنا سأقوم بالمهمة " ، كانت
على رأسه علامة تعجبٍ كبيرة كيف تظن أنها تستطيع القيام بذلك ! .
يقول أنه طلبَ منها أن تريه ما ستفعل ، ووقفت بكل ثقة وأمام الجهاز أمسكت
العينة و قامت بالضغط على زر حتى ظهر على الشاشة " ادخل العينة " ،
أدخلتها ، ثمّ انتظرت حتى ظهر " تم سحب العينة " فقامت بإعادة عبوةُ
العينة ، وانتظرت حتى ظهر في الشاشة " قم بطباعة النتائج " ، فضغظت على
زر الطباعة و أعطته قالت " خذ النتائج " .
يقولُ كنتُ مصدوماً جداً ، وسألتها كيف قرأتِ ما كُتب ، فأخبرته أنها لا
تجيدُ القراءة لكنها باستمرار تشاهد فنيّ المختبر وهو يقومُ بعمله بادخال واخراج
العينة وطباعة النتائج فتعلم أن ما يظهر أولاً يخبرها بالأمر الفلانيّ ، وما يظهر
ثانياً يخبرها بالأمر الآخر وهكذا .
لا زال مصدوماً وهي مبتسمة سعيدة كطفلةٍ أُعطيت قطعة حلوى ، كان يحكي لنا
وهو مبتسماً عينيه بهما بريقٌ عميقٌ جداً وكأنه كان يحاولُ إخبارنا عظم النعمة
التي نحنُ فيها ، وبمعنى آخر أصحاب المعاطفِ البيضاء عُظماء .
هم حقاً عظماء حينما يحاولون أن يوصلون لنا تلكَ الرسالة ، وهم يحاولون لنا
أن يشرحون لنا الحبّ الذي يكنونه لما يفعلون ، أنهم يرون أن المرضى يستحقون كلّ
الجهود ، وهم مجتهدين لذلك .
معلّم مختبر الأحياء الدقيقة كتب في أول صفحةٍ من كتابه " اعتنِ
بالمجهر امامك كأنكَ تعتني بطفلكَ الأول ، أو أقلها بأعز أصدقائك " ، يظلّ
يخبرنا أن المجهر هو الصاحب وهو كلّ ما يجب أن نكنّ له الحبّ .
معلم مختبر علم أمراض الدم قال لنا في أول محاضرة " تعاملوا مع
الشرائح الزجاجية بلُطف فإنها أغلى من الذهبِ بالنسبةِ لي " ، إنه يخافُ
علينا أن نكسرها ، أن نوجعهُ بكسرها ، بطريقةٍ أخرى كان يقول لا تؤذوني في شرائحي
، أخبرني مرّة أنه قد يسامح الطالب لو أنه أحرق المختبر فوقَ رؤوسنا بمهما كان
فعله ، لكنّه لن يسامحه على شريحةٍ زجاجيةٍ كسرها ، العجيب أن كلّ الشرائح
الزجاجيّة موضوعةٍ في مختبره!
معطفي الأبيض دائماً يذكرني بفترة انتدابي للتدريب في الفصل الصيفي ، و
أفكر بكمّ العينات التي رُمت بسبب " انكسار الخلايا فيها " والتي درستُ
في أحد مقررات هذا الفصل أنه " كان يجب أن تُفحص قبل أن تُرمى " لأنها
قد تكون مصابة بحالة مرضية عن المرضى
المتوجعين الذين وبكلّ بساطة كان يُطلب منا رمي العينات دون أن تُفحص ، لكم بعمقِ
القلبِ ألفُ دعوة.
عن شعورِ الحيرة ، وعن المسؤولية ، وعن القلقِ الذي ينتاب أثناء تشخيصٍ ما
، كيفَ أنني في مختبر الكيمياء الطبية بسبب فرق بأجزاء من الواحد في النتيجة كان
تشخيصي للمريض خاطئاً ، عن محاسبة النفس في دواخلنا أمام معطفنا الأبيض و عن العمق
في قول الطبيب " لا تظنون أبداً أن الآلة أكثر دقةٍ منكم " سنكون بحسنِ
ظنّك بإذن الله .