الأحد، 18 أكتوبر 2015

معطفٌ أبيض - 2

يقولُ لنا طبيب علم أمراض الدم أنه كان منتدباً في أحد المستشفيات ، وفي أحد أيام العطلةِ الرسميّة كان عدد فنيّ المختبر قليل في قسم أمراض الدم و كان هُناك الكثير من العينات فالمرضُ لا يعرف وقتاً محدداً ليزور الناس ، ما يُهمّ أنه اختار هو العمل على جهاز بسيط يتطلّب امساك عينة اسفلَ قطعةٍ من الجهاز لتسحب شيئاً من العينة ثم ترتفع تلك القطعة و بعد ثلاثون ثانية تظهر أن النتائج قد تمّت وعليهِ طباعتها .

يقول ما إن أمسكتُ العينة الأولى حتى أتت فتاة أميّة لا تجيد القراءة ولا الكتابة ، لا تجيد حتى كتابة اسمها وظيفتها التي تعمل بها من ثلاث سنوات أن تقوم بتنظيف المُختبر ، أتت إليهِ الفتاة وقالت " أنا سأقوم بالمهمة " ، كانت على رأسه علامة تعجبٍ كبيرة كيف تظن أنها تستطيع القيام بذلك ! .

يقول أنه طلبَ منها أن تريه ما ستفعل ، ووقفت بكل ثقة وأمام الجهاز أمسكت العينة و قامت بالضغط على زر حتى ظهر على الشاشة " ادخل العينة " ، أدخلتها ، ثمّ انتظرت حتى ظهر " تم سحب العينة " فقامت بإعادة عبوةُ العينة ، وانتظرت حتى ظهر في الشاشة " قم بطباعة النتائج " ، فضغظت على زر الطباعة و أعطته قالت " خذ النتائج " .

يقولُ كنتُ مصدوماً جداً ، وسألتها كيف قرأتِ ما كُتب ، فأخبرته أنها لا تجيدُ القراءة لكنها باستمرار تشاهد فنيّ المختبر وهو يقومُ بعمله بادخال واخراج العينة وطباعة النتائج فتعلم أن ما يظهر أولاً يخبرها بالأمر الفلانيّ ، وما يظهر ثانياً يخبرها بالأمر الآخر وهكذا .

لا زال مصدوماً وهي مبتسمة سعيدة كطفلةٍ أُعطيت قطعة حلوى ، كان يحكي لنا وهو مبتسماً عينيه بهما بريقٌ عميقٌ جداً وكأنه كان يحاولُ إخبارنا عظم النعمة التي نحنُ فيها ، وبمعنى آخر أصحاب المعاطفِ البيضاء عُظماء .
هم حقاً عظماء حينما يحاولون أن يوصلون لنا تلكَ الرسالة ، وهم يحاولون لنا أن يشرحون لنا الحبّ الذي يكنونه لما يفعلون ، أنهم يرون أن المرضى يستحقون كلّ الجهود ، وهم مجتهدين لذلك .

معلّم مختبر الأحياء الدقيقة كتب في أول صفحةٍ من كتابه " اعتنِ بالمجهر امامك كأنكَ تعتني بطفلكَ الأول ، أو أقلها بأعز أصدقائك " ، يظلّ يخبرنا أن المجهر هو الصاحب وهو كلّ ما يجب أن نكنّ له الحبّ .

معلم مختبر علم أمراض الدم قال لنا في أول محاضرة " تعاملوا مع الشرائح الزجاجية بلُطف فإنها أغلى من الذهبِ بالنسبةِ لي " ، إنه يخافُ علينا أن نكسرها ، أن نوجعهُ بكسرها ، بطريقةٍ أخرى كان يقول لا تؤذوني في شرائحي ، أخبرني مرّة أنه قد يسامح الطالب لو أنه أحرق المختبر فوقَ رؤوسنا بمهما كان فعله ، لكنّه لن يسامحه على شريحةٍ زجاجيةٍ كسرها ، العجيب أن كلّ الشرائح الزجاجيّة موضوعةٍ في مختبره!

معطفي الأبيض دائماً يذكرني بفترة انتدابي للتدريب في الفصل الصيفي ، و أفكر بكمّ العينات التي رُمت بسبب " انكسار الخلايا فيها " والتي درستُ في أحد مقررات هذا الفصل أنه " كان يجب أن تُفحص قبل أن تُرمى " لأنها قد تكون مصابة بحالة مرضية عن  المرضى المتوجعين الذين وبكلّ بساطة كان يُطلب منا رمي العينات دون أن تُفحص ، لكم بعمقِ القلبِ ألفُ دعوة.


عن شعورِ الحيرة ، وعن المسؤولية ، وعن القلقِ الذي ينتاب أثناء تشخيصٍ ما ، كيفَ أنني في مختبر الكيمياء الطبية بسبب فرق بأجزاء من الواحد في النتيجة كان تشخيصي للمريض خاطئاً ، عن محاسبة النفس في دواخلنا أمام معطفنا الأبيض و عن العمق في قول الطبيب " لا تظنون أبداً أن الآلة أكثر دقةٍ منكم " سنكون بحسنِ ظنّك بإذن الله . 

الأحد، 11 أكتوبر 2015

معطفٌ أبيض - 1



كانت نظراتها لا تُغادرني وهي تشعرُ بالخوفِ رُبما أو الحيرة عن سببِ وجودي في مكتب الطبيبةِ آن ذاك ، ظلّت تقّلب ناظريها بيني وبينَ الطبيبة و هي تشكو ما تشعرُ بهِ ابنتها ذات الأربع عشرة ربيعاً التي ظلّت صامتة طوال الحِوار ، الأم و ابنتها المريضة ينظران إليّ طوال الوقت علّي أهمسُ بحرف و أنا أنظرُ إلى المريضة بتفحّص رأفةً بحالها ، حتى أتى نداء الطبيبة " جهزّي أدواتكِ " ، ما إن أخرجتُ الإبرة حتى صرخت الأم " مُستحيل " ، قالت لها الطبيبة بكلّ هدوء "هيَ مُتدربة لدينا وأحد واجباتها أن تقوم بسحبِ الدم من المرضى ، و قد شهدَت مسؤولة القسم و احدى الطبيبات على قدرتها و أنها ليست المرّة الأولى التي تقوم فيها بهذا العمل " ، غضبت الأم غضبت شديداً وبدأت بالصراخِ و اتهام الطبيبة أنهم لا يهتمون بالمرضى و يحاولون قتلهم ورميهم للمدربين حتى يُقتلوا ، أعلنت الطبيبة بكلّ هدوء أنها هيَ من سيقوم بسحب الدم من الإبنة و اعتذرت إلى الأم التي لا زالت تشتم وتلعن المشفى و الأطباء وكلّ من له علاقة بوجودنا كمتدربين لنسحب من أيادي المرضى .

قالت لي الطبيبة بعد خروجهن " لا بأس كلنا مررنا بموقفٍ مماثل انتظري المريضة التالية " ، أتت المريضة التي بعدها التي قضت ما يقارب عشرون دقيقة تشكو طول الإنتظار و أنها انتظرت طويلاً حتى تقابل الطبيبة خديجة لأنها ترى أنها أفضل طبيبة في ذاك المكان ، وبدأت الطبيبة تفحصها و تطرحُ عليها الأسئلة حتى وصل المشهد " سنقوم بسحبِ عيناتُ دمٍ منكِ لإجراءِ بعض الفحوصات ، استعدي " ، كانت جملتها كصاعقةٍ أُنزلت بالمرأة بقت تقولُ لها أنا انتظرتُ طويلاً لأني لا أشعرُ بأيِّ ألمٍ منكِ وترميني لهؤلاء ، حاولت الطبيبة اقناعها ووافقت على مضضٍ وخوف وسلّمتني يداها التي كانت ترتجفُ خوفاً ، سألتني عن اسمي وأعطيتها اسمي الرباعي وقالت " آه ، أنتِ ابنة المهندس فُلان " ، قلتُ لها " نعم أنا بنته " ، فابتسمت وقالت إذاً أنا على ثقةٍ بكِ ، كان الأمرُ مزعجاً كونها تثق بمتدربة كوني ابنة والدي الذي لا علاقةُ له بالطبّ أبداً لكن لا بأس المهم أنها تثقُ بي الآن ولن ترتجف واخطئُ حينها ، أمسكتُ بطرفِ الابرة حتى أُدخلها ، وبدأت تنطقُ الشهادتين وآيات القرآن بسرعةٍ كبيرة حتى أعلنتُ لها أنني انتهيت ، وقالت بفرحٍ " آه أنتِ مثل الطبيبة خديجة لم أشعر بشيء اطلاقاً " ، حييتني وانطلقت .

المريضةُ الثالثة ما إن شاهدت الإبرة حتى بدأت بالصراخ ارجوكِ لا تفعلي ، اتركي دمي ، وبدأت تبكي و تولول ، الغريب أنها في العشرين من عمرها ، أمسكت يدي وبدأت تقولُ لي ارجوكِ لا تفعلي ارجوكِ حتى تركتُ الابرة من مشهدها المؤلم وتركتُ كل شيء خلفي وانسحبت ، عدتُ لاحقاً لتخبرني الطبيبة أنها لم تستطع سحب الدم منها وأرسلها لأقرب مشفى حتى يشخصّون حالتها .

عن تلكَ المراة الكبيرةُ في السنّ التي خفتُ من دمائها التي سالت فورَ إدخالي للابرة و سحبتُها سريعاً من وريدها ، لم أكن أعلم أن هذهِ الحالات قد تحدُث حتى أخبرني الطبيب بعد هذا المشهد وكلّ ما فعلته المرأة أن ابتسمت لي وقالت لا بأس حاولي في يدي الأخرى ، لكنِّ انسحبت و اعطاني الطبيبة الأبرة التي تسحب الدم لا التي تُدخل في يد المريضة وقال لي أنا أدخلها واسحبي ، وما إن امتلت لنهايتها حتى فُكّت اجزائها بغيرِ قصد و سُكبت دمائها فيها و فيّ وملء ملابسِ الطبيب ، ارتجفتُ حينها وخفت لكنها كانت تكرر " لا بأس ، إن لم تتعلموا فينا في من ستتعلموا ، لا بأس ابنتي " ، ظلّت الابتسامة لا تُفارقها وهي تهدئ من خوفي وقلقي عليها وهي تردد لا بأس تعلموا ، لتكونوا كباراً !

هربتُ حينها إلى حيثُ ننتمي و نحنُ نحكي للمسؤولة عمّا حدث و كلّي قلقٌ عليها و أخبرتني أنّ الخطأ في المصنع وأنهم واجهوا نفس المشهد بسببِ رداءة صنع بعض الإبر ، أتت في نهاية اليوم لتسلم علينا العجوزُ الباسمة التي لا أعلم من قام بسحب الدم منها بعدها ، راودني طيفها طوال اليوم و لم أنم ليلتها ضميرٌ قاتلٌ كان يحاربني أنني أوجعتها فيما كانت تهدئ من روعي وتقولُ لي لا شيء موجع .

عن ذاك الطفل الذي كان يصرخُ ويبكي و فيما كنا ثلاثة مع والده نحاولُ الامساك بيده ، وكنت ارتجف ، كانا اللذان معي ينظران إليّ وأنا أكادُ ارتجفُ معه و عيناي اغرورقت بالدمع من صراخه و خوف أمه التي كانت 
تبتعد من كلّ صرخة ، كنتُ انظرُ للطبيبة بعدها و اقولُ كيف قاومت الكثير من البكاء و الكثير من الوجع .

إلى كلّ مريض خائفٌ من غلطةِ متدربٍ على يده ، ذاك المتدرب رُبما قضى ليلة أمس في محاولة الإدراك يقيناً ما سيقوم بهِ على يديك ، ذاك المتدرب غاص في المكتبات بحثاً عن معلومةٍ سيعملُ بها لصحتك ، ذاك المتدرب قضى أياماً متنقلاً بين مكتب طبيبٍ لآخر لأجل ألا يخطئ فيك ، ذاك المتدرب لا ينام الليل فيما تغلقُ كلّ أضواء المنزل وهو يقرأ ويذاكر ، ذاك المتدرب يرمي ورقة اسئلة الامتحان تعطى إليه قبل الامتحان حتى يكتب الذي يعرف كي لا يظلمك لأجلِ درجةٍ أو غيرها ، ذاك المتدرب لم يحضر جمعات العائلة طويلاً ، لم يرافقهم في الرحلات ، و فوّت الكثير من المناسبات ، ليكون بالصورة التي ترضيك ، ولينام مرتاح البال حينما لا يخطئ فيك .

فيما يعتقدُ الكثير أننا فاشلين كحال الطبّ لدينا ، هم في الواقع لا ينظرون لعمقِ الأمور ، ولا يعلمون ما يحدثُ في الخفاء ، لا أنكرُ وجود الأخطاء الطبيّة ولكن تبقى بعض القلوب التي يزاحمها الضميرُ في عملها فتجتهد فيهِ بحبّ ، و فيما يبقون يكررون على مسامع أذني كيف تنجحين وأنتِ غبية ، أو يقولون أني فاشلة هم لا يدركون حقاً ما الجهدُ العظيم الذي نمارسه !

العقولُ العقيمة التي تظنّ أن وجودنا وعدمنا سواء فلتحاولُ فقط أن تحدد مكان إدخال الإبرة و عمقها في يديّ مريض ، وفيما يبقى الكثيرين يقولونَ لي أنني " دفشة " و أن المرضى سيموتون على يدي أنتم حقاً حمقى ، طال الزمان و إن قصر سأثبت لكم ذلك .

حينما يأتي ذاك اليوم الذي أصحو فيهِ فجراً لأذهب فيه للمشفى مرتديةً معطفي الأبيض ، أو في منواباتي الليلية أمضي تاركةً النوم خلفي ، لن تستطيع وقتها أن تشتمني لأنك ببساطة ستحتاجُ إليّ يوماً ما ، وبتفصيلٍ أكبر ستدرك الحمق الذي أنت عليه .

ذاتَ يوم ستصحو – أبعد الله عنك السوء و البلاء – في حاجةٍ لطبيب وممرض و مخبتراتيّ وصيدلاني و أيٍّ كان يعملُ في المشفى ، فادعو لهم أن يُباركَ في جهودهم .