الخميس، 18 نوفمبر 2021

على قيدِ الشَّغف

 

 

كنتُ استعدُّ لمقابلةٍ ما وفكرتُ في أوّلِ سؤال سوف يُطرح: "من أنتِ؟". فكرّتُ ملياً ولم أجد إجابةً ترضيني أو مُنمّقةٌ كما ينبغي لتجعلهم ينبهرون مني. أنا نُهى، ثم ماذا؟ عالَمٌ من التعريفات والأفكار المتضاربةُ في رأسي، أحلامٌ لم تتحقق لكنِّ هل يُمكن أن أُعرّف نفسي بها؟ لكنِّ أسعى فهل يحق لي اعتبارها جزءاً من هويتي؟ 


أقفُ أربع مرّاتٍ في الأسبوع لأُلقي محاضرةً ما عن موضوعٍ ما قد كنتُ حضّرتُ لهُ ساعات، وأتلو كلما حضّرت طوال الطريق.. وأنهيهِ بخطابي التشجيعي الذي تتزاحم أفكارهُ في رأسي، ولكنِّ لم أتلوهُ على طلابي بعد، وأخافُ أنني وبغيرِ قصدٍ منّي أن أُحطم أحلام أحدهم وأنا التي أسعى وأجاهد من أجلِ أحلامي. تمرُّ عليَّ فتراتٌ أذبلُ فيها فكلُّ حديثٍ حتى عابر يقتلني، وتمرُّ عليَّ أياماً من الغرق أجدَّ نفسي فيها في طريقي للبحثِ عن منقذٍ مما أنا فيه، ولحُسن حظي لديَّ رفيق درب والكثيرُ من الأصدقاء الذين كانوا ولا زالوا هم السند وهم كتفي حين يسقطُ العالم أجمع على رأسي.


قبل عدّة أشهر كنتُ أجمعُ كتبي كلها في صناديقِ تخزين ومرَّ عليَّ كتاب "وتين الحرف" وضحكت، فتحتُ صفحاته الأولى وبدأتُ اقرأ، تذكرتُ حينها أنني وفي يومٍ ما قررت أن أنشر كتاباً وسهرتُ عليه أشهر طويلة أعدّل فيه واكتب وأدوّن وأُدقق، مسكتُ نسختين منه في يدي وراسلت العديد من دورِ النشر، وحين حصلتُ على موافقةِ نشر أخيراً من أحدِ الدور، قررت أن انتظر حتى تخرجي، مرّت الأيام وباتت تلك النسخ يتيمة وسط رف الكتب، ولم أعد. أفكرُّ في نشرهِ أبداً، رُبما ذاك حلماً مات في داخلي ولم أسعَ لهُ مرةً أخرى، أو أنني لم أجد فعلاً أن هناك ما يستحقُّ نشرهُ بعد، وربما ذات يومٍ سأنشر كتاباً، من يعلم؟


كنتُ اعتبرُ نفسي أنني مستسلمة حين رأيتُ تلك النسخ بعد سنواتٍ من الغيابِ، لكنني في الحقيقة كبرتُ على ذلك الحُلم ولم تعد تراودني تلكَ الرغبة، ولا بأس كلٌّ حلم وليد لحظةٍ ما قد يموت في أخرى، وأليسَ الحياةُ بضعُ أحلام بعضها محققٌ وبعضها مؤجلٌ وبعضها نسعى لها بدون. وصول؟ ما يطمئنني دائماً في كلِّ سعي أن الله يعلم ما نسعى إليهِ وأنهُ يأجرنا على السعي كله لا الوصول. 


قالت لي احداهن قبل أيام: أنتِ على قيدِ الحياة؟ كانت تسألني عن مدونتي، ولحُسن حظها أنني كنتُ أُفكر في التدوينِ في الأيامِ الأخيرة. لنعود بالحديث عن هذا كنتُ في فترةٍ ما أدوّن يومياً ثم أصبحتُ أنمق أحاديثي أكثر، وصرتُ أخافُ فعلاً من أن يقرأ شخصٌ ما أي تدوينه ويصيبهُ شيءٌ من اليأس لأنني وبطريقةٍ ما أُحب أن ترتبط الأحلام بذكري العكس. ولأنني في كلِّ مرةٍ حزنتُ في دوّنت دون أن أنشر لأن الأمرُ كلُّه بدأ حين قالت لي احدى طالبتي "وجدتُ مدونتكِ صدفةً وقرأتها وهي مُلهمة."

علمتُ في تلك اللحظة أن كلُّ ما أردتُ إيصاله لطلابي ولو للحظةٍ ما لم أقلهُ سيصلُ بطريقةٍ ما إليهم ولو كان مؤجلاً. الحقيقة أنني شعرتُ بالخجل في تلك اللحظة فمدونتي هي مذكرات مراهقة في الثانوية، ثم طالبة جامعية ثم موظفة، لا شيء من هذا مترابطٌ غير أنها صنعتني وشهدت كل تغيراتي ببهجة. 


أتحاشى دائما قراءة ما كتبتُ سابقاً لأنني بطريقةٍ ما أخجلُ منه كون تفكيري تغيّر، قبل فترة كنتُ اشكو لأحدى صديقاتي حزني من حلمٍ لم يتحقق، وارسلت لي اقتباس شعرتُ أنه مُلهم، تعجبت منه لكنها أخبرتني أنها جزء من تدويني... كنتُ قد نسيتها تماماَ، لكنها ذكرتني أنني وفي فترةٍ ما كنتُ متوّقدة، فلا بأس بشيءٌ من اليأس، أجدً دائماً مواساتي لنفسي فيما كتبتُ سابقاً وهذا السبب الوحيد الذي جعلني لا أتخلّص من هذه المدونة، فلا شيء يربطني بها غير أنها الأحلام التي عرفتها وعرفتها، فكبرت فيها أحلامي، انطفأت أُخرى وتحققت فيها الكثير من الأحلام، وكله قد دوّنتهُ مراتٍ كثيرة، وغفلتُ عن الكثير منه أيضاً.


قبل عامين وضعت احدى الطالبات على مكتبي رسالة "أنتِ لستِ معلمة بالنسبة لي فقط، أنتِ مُلهمة" وضعتها على اللوحِ امامي اقرأها في كلِّ مرة احتجتُ لذلك، قبل شهر كنتُ اناقش احدى الطالباتِ في شيء وقالت أحببتُ العبارة، شكرتها وتبسمت، وباشرت بعدها واتفق معها جداً. 


شعرتُ بالامتنان والفرحِ حينها، وأعلمُ أن سعيي لحلمي والوصول وإن كان مؤجلاً فعلى قيدِ الحلم يولد الشغفُ وأحلام أكثر، وأعلمُ أنني اخترتُ أن أكون اكاديمية لسببٍ واحد أكيد وهو أنني أريدُ أن أردَّ الدين لهؤلاء الذين ألهموني وأنا طالبة حتى تكبرُ كل الأحلام والشغف. 


في المرة القادمة لا تسألوني إن كنتُ على قيد الحياة، كلنا أحياء ما دمنا نتنفس لكنِّ اسألني إن كنتُ على قيدِ الشغف.فهنالك يكمن الفرق الأكبر، دعواتكم يا أصدقاء لأبلغ حلمي و يتحققُ سعيي. 

الأحد، 4 أبريل 2021

حُلمي الذي كان - 3

 


نظرتُ إلى أجندتي قبل أيام، وجدتُ التاريخ نهايةَ مارس، وسيُقبل الأول من أبريل بعد أيام، ابتسمت. إنها الذكرى السنوية لتاريخ تعييني كمُعيدة. أغمضتُ عيني وأخذتُ أُفكر في العامين الماضيين، اليوم الأول لبداية عملي، وكل ما حدث خلال العام الأول، كل شيء كان جديد، كان مفعماً بالشغفِ والحماس و الحُب، ولا زال كذلك، لولا أنني مرّت أيام من شدةِ البؤس فكرتُ بالرحيل، الرحيل فقط والابتعاد عن كل شيء، خلال العامين هذين ودّعتُ خلالها خمسةُ من معلميّ الأفاضل لأسباب مختلفة، شعرتُ بالغربةِ في كل مرة يرحلُ فيها أحدهم، وشعرتُ أيضاً أنني وبيومٍ ما سأجدُ نفسي غريبة بين حفنةٍ من الموظفين الجدد الذين لم يكونوا معي خلال رحلة دراستي أبداً، وأعلمُ أنه مصير الحياة، وسيحدثُ يوما ما، وكلنا راحلٌ من المكانِ نفسه لمكانٍ آخر، للتقاعد ولمختلف الأسباب، فنحنُ لسنا أشجاراً. 

الأولُ من أبريل | أنا، ورفيق الحياة، كوبيّ قهوة وكلٌ منا متوجه إلى مكان عمله، هذا اليوم هو اليوم المُفضل لديّ من الفصلِ الدراسي، هو يوم تحضير أحد الصبغات التي تأخذُ يوماً كاملاً في تحضيرها، منذُ الثامنةِ صباحاً حتى فلترتها في اليوم التالي من صُنعها، يُصادفُ أنها الذكرى الثانية، ولا زال معلمي يعرفون بي "كانت طالبتنا وأصبحت زميلتنا". 

في أواخر أغسطس الماضي، اتخذتُ قراراً فجأة أن أدرس عن بُعد في أحدِ أعرق الجامعات البريطانية، وكان بين يديّ تخصصين مختلفين، الأول علميّ والثاني فلسفي "لم أكن أعلمُ حينها" استشرتُ معلميّ وزملائي وقررت ألا أخوض في العلمي لأني لا أفضّل الحصول على درجةٍ علمية عن بُعد، وأقبلتُ على تخصص "التعليم الإكلينيكي" المُخصص للأكاديميين ومعلمي الممارسين الصحيين، قدّمت خلال أقل من أسبوع حصلتُ على القبول وخلال أقل من شهر بدأتُ الدراسي، أقساط الدراسة المكلفة لم تكُن في الحسبان لكنِّ فعلتها على أيةِ حال، وبدأت. حينما كان طلابي يشتكون من صعوبةِ التعليم عن بعد، كنتُ أشتكي من التعليم عن بعد وفارقِ التوقيت!فحينما اقرأ طوال الأسبوع وأبذلُ جهدي في الاستعداد للمناقشات الأسبوعية، يبدو الأمرُ مرهقةً حين تبدأ المحاضرة في الحادية عشر ونصف ليلاً بعد يومِ عملِ مرهق. ولكنّ على أيةِ حال بدأتُ الدراسات العليا لأتجاوز بؤس حلم الماجستير الذي اجتهدتُ وبذلتُ فيهِ كثيراً ولم أحصل على بعثةٍ بعد، فحين شعرتُ أن البؤس تسلل إليّ بدأتُ رحلةٍ جديدة ومختلفة تماماً.

النظام البريطاني مختلف تماماً عن نظامنا التعليمي، ونظام التقييم مختلف، وطرق التعليم مختلفة، ويصادف أن الأوراق البحثية والكتب الفلسفية والتي تناقش التعليم الإكلينيكي مختلفة تماماً عن العلمية، يشاركني هذا الاختلاف الصادِم، ما يُقارب مائة طالب من مختلفِ أقطار العالم، فيا بهجتي بالأصدقاء المختلفين لنتشارك التجربةِ والرحلة. 

عموماً، بقيت أيام معدودة على هذهِ الرحلةِ فبمجرد ما أُنهي الورقة البحثية الأخيرة، سأستطيع وقتها حضور حفل التخرج الافتراضي لجامعة ادنبرة، ليتكرر حلمُ التخرج مجدداً مرةً أخرى. 

صُدمت بالنظريات التي تكادُ أن تصل إلى مائة نظرية في التعليم، وطرق التقييم وطرق تصميم المناهج وغيرها، تعلمتُ كثيراً من التجربةِ وسعدتُ بالتغيير الحاصل في حياتي العملية، في التعلمِ من جديد، الخوض من جديد في غمار الحُلم، الشغف والفرح، لولا أن أوضاع العالمِ من جراء الجائحة هي الأقسى علينا في الممارسة التعليمية، التعليم عن بعد، تقليل أعداد الحضور إلى المختبر، تقليص أعداد التجارب هو بشكلٍ ما بائس وحزين. أتمنى أن اغمضَ عيني وأجد كل العالمِ قد أخذ اللقاح وسنرتاح من عناء هذا الكابوس الممتد لعام. 

في نفسِ الليلة حضرتُ محاضرة قال أستاذي فيها: هل نحنُ أحياناً نكبر وتزداد خبرتنا للحدّ الذي لم نعد نشعرُ بطلابنا؟ وهذا السؤال هو أرقي في تلكَ الليلة. 

يُتبع.