جلستُ مُجهدةً أحملُ حقيبة ظهري، معطفي ومجموعةً من الأوراقِ في يدي على مكتبي، نظرتُ لرسماتِ الفيلِ أمام ناظريّ، خارطة فلسطين،رسمةُ صديقتي شهد المكتوب عليها لا حدود للأحلام، صورةُ أبي من تخرّجه، التقويم الأكاديمي للفصل، وورقتي البحثية التي نشرتها قبل سنتين، وجدول محاضراتٍ مهمل لم أزلهُ من مكانهِ منذ فصلين دراسيين، وكل شيء مبعثر على الطاولة، حتى احلامي.
أنا مُجهدة، يُخيّل لي أحياناً أنني حمّلتُ نفسي فوق طاقتها بانتسابي للدراسات العليا بدوام جزئي، و دوامٍ كامل طوال الأسبوع لوظيفتي المُعتادة،أغمضتُ عيني أثناء القيادةِ قبل أيام وانتبهت أنني يجبُ أن أفتحها حتى لا أنام، أنا مُجهدة لكنّ حتى وإن ضاقَ بيّ التعب في أحلامي تتسعُ أكبر،جُهدتُ وأنا اقرأ عن مربع جوهاري، نظرية كولب و باندورا، أجيب على رسائلي البريدية و أحضرُ محاضراتي وأقدم محاضراتي و كل شيء يجعلني أرغُب بالذهابِ إلى المطار، ومثل الأفلام أذهب لمكتبٍ ما واطلب تذكرة باتجاهٍ واحد لأي وجهةٍ كانت، ومعي رفيق دربي و أغلق هاتفي وأسافر.
يضيقُ بيّ كل شيء أحياناً، لكن يتسعُ كل شيء فجأة، لا زال أكبر أحلامي مؤجل بعجزٍ ماليّ ورغبةُ مدير، ولا أحد يذكرُ وجود حلمٍ مركونٍ فيالزاويةِ أبكيهِ على صوت حمود الخضر وهو يغني “يا هلا بالحلم” وكأنهُ آخر أحلامي المركونة في الزاوية، لستُ يائسة ولستُ تعيسة لكنالحياة الاجتماعية لا تناسبني تماماً وأنا طالِبة.
إدنبرة.. مدينةٌ زرتها قبل أعوام ليومٍ واحد، رأيتُها ووقعتُ في غرامِ جمالها، فكنتُ أصِفُها لزميلي قبل زيارته وأقول: إنها تشبه المشي في أحد روايات شكسبير رُبما؟ لا أعلم. زرتها زيارة عابرة ومن ذلك اليوم أُخطط لتكرار الزيارة، ولكنها فجأة أصبحت مدينةً تحملُ حلمي الكبير، حلمٌأمارسهُ كل يوم بعد العمل وأنا طالبة، أحادثُ زملائي من كلّ العالم ونتفق أننا يوما ما سنلتقي. أين؟ في إدنبرة. المدينة الحالِمة التي يشاركناالمُعلمين فيها بصورٍ كل أسبوع وهم يصفون الطقس وأشعرُ بطريقةٍ ما أنني هُناك، لكنِّ هُنا، في هذه البقعة الجغرافية التي جعلت أحلامي القريبةُمني بعيدة، وكلما اقتربتُ ابتعدت.
أنا لستُ حزينة، أنا سعيدة وأشعرُ أنني أملكُ كل شيء ولكنّ ما قيمة الحلم إن كان سهلا؟
أنهيتُ قبل قليل أحد المحاضرات التي تجاوزتُ فيها تفكيري العميق: لم نتعلم؟ وفي الحقيقة أنني درستُ فلسفة التعلّم والتعليم خلال الفصلِالماضي بأكمله، ولكن لماذا؟ وأشعرُ بالأسف لكل أولئك الذين يبدؤون لكي ينتهوا، يحضرون المحاضرات ليسألوا سؤال واحد: هل يدخل في الاختبار؟ الذين يقفون في المختبر طوالاً حتى يسألوا: متى ننتهي؟ الذين يتركون العالم كله لأجلِ درجات وبدون أن يستمتعوا بالرحلة يكونون كالآلات التي خُلقت لتنتهي، تبدأ لتنتهي، وما جمال الانتهاء إن كنتَ لا تحملُ من الرحلةِ شيئاً.
خلال الفصل الماضي طلبت منا المُعلمة أن نكتب فلسفتنا في التعليم، وكنتُ أتساءل هل حقاً لديّ فلسفةً لذلك، قرأتُ عشرات الأوراق والكُتب لكيأحدد في خمسمائة كلمة ما وجهةُ نظري في التعليم، ولكنِّ لا أجدُ أنني فعلاً يمكنني أن أقول كل شيء، فالتعلم الذي بدأ من آدم ولن ينتهي ما دمناعلى هذه الأرض، فما إن توقفنا حتى وجدنا أنفسنا في عدادِ الأموات، فالتعلم الحقيقي هو أن تخوضَ في الشيء لا أن تستقي درجاتهُ كأن هدفكالأسمى من العيش هو الدرجات.
عزيزي الذي يقرأ، كنتُ يوماً ولا زلتُ طالبةِ، قال لي أحد المعلمين الأفاضل أن الدرجات مجرد رقم، التعلم الحقيقيّ هو ما تكتسبه خلال هذهالرحلة، وقال أبي لي يوماً إننا في مراحلٍ نتعلم كيف نتعلم، ثم نتعلّم التعلّم الحقيقي حالما نصبحُ مستعدين لذلك، كلّ هذه الحكمةِ التي أُحيطت بيأثناء نشأتي أشعرتني أنني انظر لكلّ هذا بصورةٍ مختلفة، رُبما يشاركني البعضُ ولكنِّ أشفقُ على أولئك الذين يخوضون كل شيء فإذا هم فيخواء حتى بعد النهاية.
اغمضُ عيني مراراً وتكراراً وأشعرُ أن كل شيء حولي يدور، وأشعرُ أحياناً أن البيت الريفي، المجهر ومُكعب التشريحِ امامي هو كل شيء، كلعالمي الصغير، وكلُّ أحلامي الكبيرة. حُلمي الذي كان يكبرُ في ويُزهر فيّ وأمارسهُ بشغفٍ كل يوم، هو ما يجعلني استيقظُ صباحاً أُغني طوال الطريق الطويل وأشربُ قهوتي وأمشي في الممرات أقول صباح الخير للجميع، بالمناسبة: أُحب كل الأيام التي أُصادفُ فيها طلابي وهم يقولون“صباح الخير مس” وأردُ عليهم بابتسامةٍ صباح النور. أُحبهم جميعاً وكأنهم بضعةٌ مني. أُهناكَ شخصٌ ما في العالمِ أكثر حظاً مني؟