جلستُ على مكتبي صباح اليوم وأنا أشعرُ بالحرِ الشديد لمجرّد المشي لخطواتٍ معدودة وبضعٌ وعشرون درجة من المواقفِ حتى مكتبي، وأشعرُ بالحرِ أكثر وأنا أشربُ قهوتي، جلست مسرعةً اخرجُ حاسوبي المتنقل، دفتر ملاحظتي، الموسوعة التي اقرأها، نزعتُ الساعة من يميني التي لا أعلمُ حقاً لم أرتديها و هي أول ما أزيلهُ عن رسغي فور جلوسي في المكتب، نظرتُ لصندوقِ شرائحي الزجاجية الذي ظل معي منذ ما يقارب أربعُ سنوات عندما كنتُ أدرس، المجهر الضخم على طاولتي الذي كان بعيد المنال، علبةُ أقلامي، مكعب روبيك الذي أعيدُ تشكيلهُ كل ساعة أو ساعتين، التحف المتواضعة على مكتبي من سفراتي القليلة، بيتٌ صغير لعائلة ايرلندية، مجسم لمجهرٍ من مشاركتي في مهرجان العلوم، الجامع الأزرق من إسطنبول، لوح البحر من جزيرة بالي، مكعب تشريح جسم الإنسان، هذه كنوزي الصغيرة التي كلما نظرتُ إليها ابتسمتُ فهي تعادلُ لي ألفُ ذكرى وذكرى، وصندوق افطاري، زحامُ الأسلاك خلف حاسوبي وحاسوب المكتب الذي أزعجني كثيراً لكن لا يمكن التخلصُ منه.
امامُ ناظري ورقة كُتب عليها "أنتِ لستِ معلمتي فقط، أنتِ ملهمتي" من احدى طالباتي في يومِ المعلم، التقويم الأكاديمي، جداول المحاضرات وورقتي البحثية المتواضعة الوحيدة التي نُشرت قبل عامين، بطاقات المذاكرة التي وصلت لمكتبي من مجهول لكنِّ أُحبها جداً.
ومع كل هذه التفاصيل وهذا الضجيج، أقبعُ أنا في مكانٍ هادئ جداً، لا صوت سوى صوت حاسوبي، وحركةُ زميلي في المختبر، وكل شيء هادئ وساكن لا يُحركه أي شيء سوى قدوم أحدهم لإلقاء التحية، أتنفسُ بانزعاج بسببِ الكمامة التي جلبتها لنا الصينِ هذا العام. كورونا. عدونا اللدود.
وسطُ استشعار النعمِ التي فقدناها بسببِ عدونا المزعج، العائلة، أغلى كنزُ نملكه. مرّت أشهر طويلة على المرةِ الأخيرة التي حضنتُ فيها أمي التي كنتُ أراها بين فينةٍ وأخرى منذ مارس الماضي في مواقفِ المنزل، ومنذ مارس نفسه رأيتُ أبي مرةً واحدةً يتيمةٍ فقط قبل أسبوع، أي مرّت أشهرٌ طويلةٌ ثقال لم أرهُ فيها، فتحتُ باب منزلنا ذلك اليوم، ومع احترازات التباعدِ الاجتماعي، لكنِّ رأيتهُ وركضتُ إليهِ، رأيتهُ امامي و انسابتُ دموعي شلالات من الشوقِ والحزنِ والحُب والفقد، وسط صراخ الجميع "كورونا" ركضتُ إليهِ وألقيتُ بجسدي عليه، بكلِّ أحلامي وحبي وشغفي وشوقي، وبكيت، بكاءٌ مريرٌ طويل لا اسمعُ فيهِ سوى صوتُ بكائي الذي تقطّع من الشوقِ، ولا يمرُّ في ذهني سوى أبي الذي طال فراقنا طوال تلك الأشهر خوفاً عليهم أولاً، وخوفاً على أنفسنا، كيف افترقنا؟ لا أعلمُ فحتى زيارتي الأخيرةُ له قبل تلك المرة لا أذكرها، الشوق قطّع قلوبنا كثيرا.
ابتعدتُ عن أبي وأنا امسحُ دموعي وشوقي، لا شيء عادل ذلك الشوق فطوال حياتي لم ابتعد عنهُ وأمي طوال تلكَ الفترة، أطول فراقٍ كان لمدة شهر أو شهر ونصف لظروف السفر، لكن أن تكون المسافة بيننا خمسُ دقائق ولا نرى بعضنا؟ هذا الشعورُ قاتل.
عدوي اللدود، كم ستأخذُ منا بعد؟ كم سنبكي وكم ستنتظر حتى ترحل؟ لا أعلمُ الجواب ولا أنت تعلمه، لكن يبدو أنك تستمتعُ بالبكاء الذي يتكرر كلما فقدتُ احدى شخصيات مسلسلي أمها أو والدها، البكاء الذي يذكرني بالشوقِ ويبكيني وأنا التي لا أبكي على المسلسلاتِ أبداً.
عدوي اللدود، كم عيداً ستأخُذ منا وتجعلُ كل التهاني هاتفية؟ كم صديقاً ستجعلني أفقدهُ أكثر؟ وكم حديثاً كان يجبُ أن يُدار فنتوقف إما بانقطاع الانترنت أو لسببٍ ما، لأننا لم نلتقي؟ كم مرةً يجبُ علينا أن نعقم كل شيء، أن تتشققُ أيدينا من المعقمات فنعيدُ ترطيبها بجالون من المرطبات حتى نعيدُ لها هيئتها؟ لكم من الأيام يكون خروجي للعملِ بالكمامة أهم من جهاز حاسوبي وكتبي وكل شيء؟ لكم من الأيامُ سوف نخافُ أكثر؟ ولا يكونُ الزكام العابر مرعباً؟ ولا السعال الذي يباغتنا فجأة لجفاف حلوقنا في وسط التسوق لا يصبحُ مرعباً؟ لكم من الأيام لا تستطيعُ فيها عائلتنا أن تجتمع؟ ألا أرى أعمامي وعماتي وحنان وكل الأحبة؟ لكم من الأيام سنشعرُ أن كل شيء مؤجل بسببك؟
عدوي اللدود، شكراً على درس استشعار النعم بالطريقةِ القاسية التي طرحت، شكراً على تضييق حياتنا وخنقنا، وتقييد حركتنا ومنعنا من الأحضان من الأحبة. عموم القول إننا نكرهك، فهلا رحلت؟
التدوينة للذكرى ـ فبعضُ الأعداء يخلدهم التاريخ.