الجمعة، 6 أكتوبر 2017

معطفٌ أبيض 6 - تخرّج



كانت السنون أسرع من رمشة العين، لم تكنْ ثقيلةً كما هيَ الآن، و لم نشعر بها حتى وسطَ ضحكات الأصدقاء في عمقِ أحلامهم

كان كل شيء ساكنٌ لا يتحرّك، و كانت الأقلام وحدها تصدرُ ذلك الضجيج المزعج، و الأوراق التي تُقلّب أشبهُ بصوتِ الريح، كان المشهد صامتاً لا يتحرك أبداً

لقد كنتُ مهووسةٌ بالمختبر طوال فترة دراستي، إنه المكان الأكثر سكينةً في حياتي مهما بلغَ ضجيجه، إن دخولي إليهِ أشبهُ بالمضيْ قدماً نحو الحياةِ مرةً أخرى، في كل مرةٍ دون يأس

لقد مَضت هذه السنون وكما يقولون تمضي ولم تشعر بها، لكنِّ شعرت
أحسست بكلِ يومٍ هناك، بكل لحظة، كل محاضرة، و كل ساعةٍ في المختبر، لقدْ شعرتُ حتى عندما كنتُ أشبهُ الموتى كنت أشعرُ به

أحسستُ بكل الأيام التي مرّت ثقيلةً عليّ أحسبُ فيها يومَ الخلاص، و أحسست بكل الأيام الخفيفة التي لم أرد أن تمضي أبداً

إن الشُّعور مختلف، لم أجد الراحة التي قالوا عنها عندما كنتُ طالبة مدرسة "دخولك للكلية سيريحك"، لكنِّ وجدتُ الشَّغف، وجدتُ حباً عظيماً و حُلماً أعظم

وجدتُ أحلام السنين في تقاسيمِ الوجوه، و أمنياتٌ طويلةٌ تمتد، تحاكُ في اليومِ ألف مرة، ويعادُ ترتيب خيوطها في اليوم الذي بعده، إن الدراسة بشغف أشبهُ بكومةِ صوف، تدور وتدورُ وتدور، لكنها لا تنتهي عند نقطةِ نهايةٍ أبداً، كما أنك أيضاً لا تستطيع العثور على النهايةِ فيها

لقد كبرتُ كثيراً، و أصبحتْ عادة الصباح أن يكون المعطف الأبيض على يميني و قد طُبع في نهايته اسمي، أو رقمي الجامعي حتى أستطيع تمييزه من بين مئات المعاطف هناك، لكنِّ أعرفه، و حتى إن تشابهت كلها، أعرف ذاكَ المعطف، الحلم الذي أرتديه كل يوم، أستطيع تمييزه في كلِّ حين حتى وأنا مغمضةُ العينين

تلكَ المرة التي فقدتُ فيها معطفي، لم أستطع أن أعرفهُ فيها، كان ذلك المشهد الأكثرُ حزناً وسط ضجيج أحلامي، كان الأمرُ مزعجاً كأني فقدتُ الشغف حتى، و كان الأمرُ أيضاً يضيقُ بخاطري وكأني أصبحتُ لا أطيقُ صبراً حتى الخلاص، حتى أنني قلتُ أن الأمر لم يعد يهمني، لكنه كان مهماً.

حينما وجدته أدركتُ أن الحلمَ في قلبي ليس في المعطف، أن الحلم يسري بداخلي ليس بمجردِ معطفٍ أبيض، أو بطاقةُ زرقاء بها تصريحُ أنني ذاتُ معطفٍ أبيض، و أن الشغفَ باقٍ فيّ آبداً لا في أي شيء آخر

لقد مضت السنون .. ها أنا أعود الآن للمرةِ الأخيرة، للمرةِ التي سيأتي الخلاصُ نهائياً دون رجعةِ أبداً، و أني أخافُ أيضاً أن يقلقني الحنين

معطفٌ أبيض للمرةِ الأخيرة، يكادُ لا يتسخُ من الخفة، ويكادُ لا يتسعُ لحلمي و هو يحيك مشروع التخرج، أشبهُ بالأمنية التي طال انتظارها! أشبهُ بكل الأحلام التي أتوق إليها .. أو نتوق إليها معاً

إن المضيْ في البحثِ و التحقيقِ و الترقب لهُ شعوره، وإن حسبة الأيام للخلاصِ من هناك لها شعورها، و إن ترّقب التخرج لأمرُ مقلقُ و مفرح

قد قلتُ ذاتَ مرة، إن الحياة قد تبدأ مرةً أخرى في لحظةِ تخرجك، وأنا أعي ذلكَ يقيناً. ستبدأ الحياةُ مرةً أخرى، بعيداً عن كل شيء، عن المختبر الدراسيّ إلى الحياةِ الحقيقية في مختبرٍ ما