إلى الذي توقف عن
الكتابةِ رغم حاجته إليها ، إلى من لا يعرف ما سيكتب لكنّه كان يكتب ، أنا أنضم
إليك بالكلام الطويل الذي لم يُكتب .
أنضم إليك بالحديث
المزخرف الذي لا أعرف كيف أقوله ، بأحاديثي الطويلة مع الغرباء العابرين ، بالمضي
قدما في هذه الحياة ، بعد أن ننسى كلّ ما
رحل ، ونقدّر الموجود .
كلّ شيء وُلد مع
المطر ، كل الفرح و البهجة ، و إندلاع الحياةِ داخلنا ، كله أتى مع المطر ، حتى
الصمت الطويل انبثق منه حديثٌ مفصّل بحب .
و أنت بعيدٌ جداً
دون أن أعرفك حتى ، أو أننا نتصادف أحياناً دون أن ندرك أننا نحن الغرباء الذين لا
نعرف أنفسنا ، و نتصافحُ في دروبِ الحياة ، نهدي بعضنا طمأنينةً بلطافة العالم ، و
نضمُّ بعضنا في دعواتٍ تطوّق الأمل ، و تهدينا الفرح بعد أن نتجرّعُ لوعة الألم .
و أنا أرى رحماتٌ
تتساقطُ علينا من السماء لتسقي الشجرةُ التي وَهنت بعد أن تساقطتُ كلّ أوراقها ، و
بقت تحتضن وريقاتها الجافة بينَ أذرعها بدفء ، و كأن الحياة ستهضمها إن لم تحتويها
، وتموت .
أدركتُ يقينا أن
كلّ الغرباء الذين صافحوني ذاقوا من لوعةِ هذه الحياة ، أم أنهم حملوا أثقالاً
ضعفَ أثقالي التي أبكتني ضعفاً ، و أني ضعيفةٌ جداً أمام صفعات الحياة ، مشتكيةً
من الوحدة رغم دفء الأحضان التي تجبر كلّ وجع ، و أنارت ليلةً مظلمةً مشبعةً
بالبرودة القارسة .
و كان الليلُ رؤوفا
لطيفاً حينما قاد قلبي للنور في ذاك السواد الحالك ، و رغم خشخشةِ الألم ، و صوت
الفرح الذي بات قريباً ، ابتدأ ببحةِ سعلةٍ أوجعتِ الليل قلقاً ، لكنِّ الله هو الرفيق
حتى ادفأ الأحزان ، و أسكن الونّات ، وجعل هذه الحياة طمأنينةً ، ونبراساً منيراً
للذي هو آت .
نألف قلوباً تدوم
لنا طويلاً ، و قلوباً تمضي في حيواتنا على عجل ، نصادف من نبغضهم من النظرةِ
الأولى ، دون أن نحملُ هماً بمحاولة مصافحتهم معلنين عن قرباً طويل ، و هناك من
يجعلهم الله في قلوبنا فجأة ، و كلهم عابرين و نحن على يقينٍ أن لا أحد باقٍ لأحد
.
تنتفضُ بنا الحياةِ
مراتٍ و مراتٍ حتى تلكَ النفضةِ الأخيرة التي لن نشعر بألمها ، لكنّنا وعلى دعاءٍ
عميقٍ أن يحمينا الله من انتفاضةِ الجميعِ عنا ، ليبقى من يمضي الليل يدعو أن
يتغمدنا الله برحمته ، أن يرزقنا الجنّةِ بغير حساب ولا سابقةِ عذاب ، و أننا كلما
سألنا الله أن يرزقنا بذاكَ الذي ينتفضُ بعدنا ، نسأله أن نبقى بثباتٍ في طريقِ
الطمأنينة ، وطريق الجنّة التي لا نظمأ بعدها أبدا .
من أرسل السلوى و
الآيات ، و أنزل علينا ربةِ الإلهام بعد المطر ، و من جعلنا نسأله و بيقينٍ أنه
قريب ، و إن رجوناه آملا لا يخذل ، بعد كلّ انكسارٍ كان لنا الجبرَ و الفرح ، من
أبسط لنا لذة الحياة الدنيا بقربه ، و من جعل كلّ أحلامنا تمضي إليه بلا كلل ، وكل
سؤلٍ كان مجاباً دون اكتفاء ، إني إليه ، و إني إليه راجع .
و من غيركَ يا
حبيبي كنتَ لي أُنساً ، وإني بكَ قوةً لا تكسرها أي قوّة ، و إني بكلّ جوارحي
آمنتُ بك ، و إني مضيتُ إليكَ في شوقٍ لرضاك و جنتك ، و أنت من كنتَ لي حبل
النجاةِ من الخيبات ، و كنتَ انت يا إلهي رفيق الأوجاع و كشفت عني كلّ كربةٍ و هم
.
ناصيتي بيدك ، ماضيةٌ
إليك ، ماضٍ فيّ حُكمك ، وعدلٌ فيّ قضائك ، أن لستُ بمعصومةٍ عن الزلل ، و لستُ
التي لا اسيء القولَ أو الفعل ، وإني على يقينٍ مهما أخطأت كان لي رباً رحيما
غفورا .
لو كان مثل زبد
البحر ذنبي ما قنطتُ من رحمتك ، ولو كان مثل الكون همي أيقنت أنك تفرجه ، و لو
كان كلّ صمتِ الأرض فيّ أدركتَ ما فيّ قبل أن أهمس ببنتِ شفه ، إلى أن يبحَ صوتي إلحاحاً
حتى تغفر لي ، وترزقني جنّتكَ يا الله .
غريباً انضممت إليه
في مشاركتهِ حديثٍ طويل ، كان في ترحِ الحياة رفيقاً أم أنه كان بعيد ، كان قريبا
صافحتهُ يوماً أم غريب ، كان فظاً غليظ القلب أم لطيف ، كان يوماً في دروبِ العمرِ
نوراً أم ظلام ، هذا المطرُ يولدنا مراراً ، و تنبثق فينا الحَياة .
غريبٌ كنتَ أم
رفيق ، أم كنتَ صاحباً وونيسْ ، كنتَ من القلب قريباً أو حبيب ، أم كنتَ لي درباً
بهذه الحياة و أهديتني سراجاً مُنير ، يبقى مُجبر كلّ كسرٍ رحمنٌ رحيم ، تبقى
الحياةُ قصيرةٌ و جنّة الخلدِ الأمان .